صدقوا ولو كذبوا

لو كان بمقدور الأطفال إحصاء ورصد أكاذيب آبائهم لكانت النتائج كارثية، ولاكتشفوا أن آباءهم محترفون في الكذب حتى أنهم يكذبون من دون أن يهتز لهم ساكن.

يتبنى الكثيرون الأكاذيب والإشاعات ويروجونها على أنها حقائق مُسلّم بها، وعندما تسألهم عن مصدرها يردون بكل ثقة “سمعت ذلك وقالوا لي”…!

تلفيق الأكاذيب أصبح شائعا إلى درجة كبيرة، وغالبا ما يبدأ بعمليات مزاح بسيطة، أو بدافع التسلية والرغبة في الخداع والتضليل، ولكن النتائج قد تكون كارثية في معظم الأحيان، وخاصة عندما يقترف البعض الكذب لترسيخ وإدامة خرافات ثقافية واجتماعية من قبيل: الرجال لا يبكون، والنساء ناقصات عقل ودين، ويتعاملون مع تلك الخرافات على أنها مسلّمات.

أستحضر هنا قصة فتاة  كتب البعض عقد قرانها دون أن تدري وأيضا طلقها دون علمها، وبالرغم من أنها نادرا ما تزور مسقط رأسها بسبب انشغالها بالعمل   إلا أن ذلك حصل في مدينتها خارج العاصمة.

تفاجأت المسكينة بهذه الأخبار الملفقة عندما سألها البعض من الجيران عن سبب طلاقها، فروت مستغربة ما ورد على مسامعها عن زواجها وطلاقها مبهورة من حجم ما وصل إليه الناس من قدرة على صناعة الأكاذيب وتصديقها في آن واحد.

التدرب على الكذب عن طريق محاكاة سلوك الآباء وتصرفاتهم المخادعة، قد يتحول مع الوقت إلى ممارسة عفوية، ومهمة سهلة على الدماغ البشري

بتنا نعيش في عالم يسهل فيه الاعتقاد في الأكاذيب على أنها حقائق، بل ونرفض تصديق الحقيقة، وبدلا من ذلك نكرر الأكاذيب وكأنها أكثر صدقا من الحقائق، بغض النظر عما إذا كانت كذلك أم لا.

يقول خبراء علم النفس إن الناس يميلون إلى تصديق الحقائق الفعلية التي تتناقض مع الأكاذيب، ولكن يبدو أن هذه النظرية قد أصبحت تُقرأ بشكل معكوس. ومن وجهة نظر علماء النفس أيضا، فإن هذه النتيجة ليست مفاجئة، فمعظم مروجي الأكاذيب والدعايات الزائفة يعتمدون على نقاط ضعف الإدراك البشري.

وإذا أردنا التأكد من مدى سذاجة عقول البعض، ما علينا سوى رصد عدد الأشخاص الذين تصلهم رسائل على منصات التواصل الاجتماعي وتدعوهم إلى إرسالها إلى عدد معين من متابعيهم، وانتظار بضع دقائق، وبعدها ستتحقق أحلامهم وأمانيهم، وإن لم يفعلوا ذلك فسيعود عليهم هذا الأمر بالوبال وتحل بهم مصيبة عظمى، وهناك ما هو أكثر بلاهة من هذه المعتقدات والأكاذيب التي يتم الترويج لها على نطاق واسع في المنصات الاجتماعية وتجد من يدعمها ويعممها، رغم أنها ليست سوى نوع من الهراء والاستخفاف بالعقول. القصص المزيفة والبعيدة كل البعد عن الواقع، غالبًا ما تستميل عواطف الناس وتنتشر بينهم بشكل أسرع من الأخبار الحقيقية.

وقد أظهر بحث أجراه معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا (أم.أي.تي) أن الأخبار المزيفة تنتشر على تويتر بشكل أسرع. ووجد الباحثون أيضا أن البشر، وليس الروبوتات، هم من يقومون بإعادة نشر الأخبار غير الدقيقة والمعلومات الخاطئة. تكرار الأكاذيب يملك قوة تجعل الأشياء تبدو مألوفة، حتى عندما يكون ما نعرفه عنها يتناقض مع الأشياء الصحيحة، لكنه قد يحل محل المعرفة في بعض الأحيان.

بتنا نعيش في عالم يسهل فيه الاعتقاد في الأكاذيب على أنها حقائق، بل ونرفض تصديق الحقيقة، وبدلا من ذلك نكرر الأكاذيب وكأنها أكثر صدقا من الحقائق،

وجزء من المشكلة يكمن في أن معظمنا يتربى داخل وسطه الأسري على القيمة الاجتماعية للصدق في سن مبكرة، ويتعرض لعقاب مبرح في أحيان كثيرة من قبل والديه، لأنه كذب كذبة صغيرة، لكن البعض من الآباء يتمادون في خلق الأكاذيب أمام أطفالهم مرات عدة ويتعمدون أسلوب الخداع والمراوغة في المواقف الاجتماعية المختلفة.

فلو كان بمقدور الأطفال إحصاء ورصد أكاذيب آبائهم لكانت النتائج كارثية، ولاكتشفوا أن آباءهم محترفون في الكذب حتى أنهم يكذبون من دون أن يهتز لهم ساكن! يعدّ سلوك الكبار وتصرّفاتهم من أهم الأسباب التي تجعل الأطفالَ يلجأون إلى الخداع والكذب؛ فعندما يسمعون الكذب من الكبار من الطبيعي أن يقوموا هم أيضا بالشيء نفسه.

ومن هذا المنطلق، ينشأ نوع من عدم التصالح بين الطفل والحقيقة، خاصة عندما يدرك أن والديه قد سبق لهما أن كذبا مرارا وتكرارا، وبالتالي يستسهل الكذب، وتقل لديه الأفكار المتصارعة والحواجز الداخلية، ما يجعله أفضل أداءً على مستوى تقزيم حيز الصدق واختزاله في دماغه، مقابل توسيع حيز الكذب والتضليل.

التدرب على الكذب عن طريق محاكاة سلوك الآباء وتصرفاتهم المخادعة، قد يتحول مع الوقت إلى ممارسة عفوية، ومهمة سهلة على الدماغ البشري، وهذا هو السبب الذي جعل عالم اليوم يسهل فيه الخلط بين الحقائق والأكاذيب.

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: