خطب الكبيرة وتزوج الصغيرة

آلمتني كثيرا قصة شقيقتين قررتا مقاطعة بعضهما البعض مدى الحياة، وحتى عندما تلتقيان في منزل والديهما صدفة، لا واحدة منهما تتجرأ على مخاطبة الثانية ولو بكلمة أو حتى تنظر في ملامحها، فكل ما تبقّى من علاقتهما ليس سوى شعور مستمر بالكره، تغلّب على مشاعر المحبّة والرابطة الدموية التي تجمعهما.

وبحكم أنهما من جيراننا دفعني فضولي إلى سؤال أمي عن السبب، ولكنّها صدمتني بما قصّته لي، عن حجم الإهانة والخذلان الذي تعرّضت له الشقيقة الكبرى، وجرحها الكبير الذي ما زال ينزف في قلبها، ولم يكن الزمن كفيلا بشفائه، رغم أن الشقيقتين قد بلغتا اليوم مرحلة الكهولة.

لقد تعرّضت الشقيقة الكبرى إلى “خيانة كبرى” من أقرب شخصين في حياتها وهما خطيبها الذي أحبته بكل جوارحها وعلّقت عليه آمالا وأحلاما كبيرة، وشقيقتها التي تعتبرها مصدر الاطمئنان والحنان بالنسبة إليها، إلا أنهما طعناها في ظهرها، وسمحا لأنفسهما بربط علاقة غرامية من وراء ظهرها.

ما دمّر الشقيقة الكبرى تماما أن خطيبها تجرأ وطلب يد شقيقتها للزواج دون حياء أو خجل، ورغم رفض والديها لتلك الزيجة إلا أن الشقيقة الصغرى تزوجته في السرّ لتضع الجميع أمام الأمر الواقع.

بعد سنوات طويلة وجدت الشقيقة الصغرى الشجاعة لتهدئة الأمور مع والديها وإعادة العلاقة معهما إلى مجراها، لكن الأدهى والأمر أنها طلبت طلبا غريبا من شقيقتها الكبرى وهو “أن تنسى”.

النسيان نعمة عظيمة من الله عز وجل، وجميعنا يتمنى لو يضع جميع هموم الماضي بكل تفاصيلها وراء ظهره وينطلق قُدما، لكن لا يبدو الأمر أحيانا بهذه البساطة. عندما بحثتُ عن تفسير نفسي لمثل هذا الأمر، ورد على بالي قصة أخرى أشدّ مرارة مرتبطة بسيرة فنان عربي مشهور، ذهب ليخطب إلى ابنه فتاة أحبها وأراد الارتباط بها، لكن بطريقة ما خطب الأب الفتاة لنفسه!

كيف سارت الأمور هكذا! لا يوجد أي تفسير أو مبرر إلى ذلك سوى أن شهرة الأب الفنية دفعت الفتاة الجميلة إلى قبول الزواج من الأب ونسيان الابن.

لا ندري ما الذي حصل بعدها سوى أن علاقة الزواج استمرت بين الأب والزوجة الصغيرة، لكننا لا نتوقّع أن الابن ظل يكنّ لأبيه مشاعر سوية.

قصتان تسنّى لي التعرّف عليهما، وربما يمتلك القراء قصصا أخرى مشابهة، لكننا سنحمل معا أسئلة مشروعة مرتبطة بالأنانية وانهيار القيم الاجتماعية، وتفضيل الكثيرين للمصلحة الشخصية وانعدام الإيثار والتضحية بين أقرب الناس.

البنت الصغرى التي تزوجت حبيب شقيقتها الكبرى، والفتاة التي فضلت الأب على الابن ربما لشهرته أو لسبب أناني أو مادي آخر، لكن الإنسان في النهاية كتلة مشاعر وليس حجرا أصمّ، وربما تستفيق هذه المشاعر ولو بعد وقت ليكتشف المرء سلوكه المعيب مع أقرب الناس إليه، فهل ستبقى حياته طبيعية مع من أختار الارتباط به؟

لا أتوقع ذلك، ثم من يدري إن كان الضحية قادرا على الغفران ونسيان طعنة الأمس من قبل أقرب الناس إليه؟

إذا كان المثل السائد يقول إن الزمن كفيل بنسيان جروح أقرب الناس الذين تسببوا بها لنا، إلا أنه لا يضمن أن تلك الجروح ستبقى بلا أثر حتى وإن اندملت في القلب، كما حصل مع الشقيقتين، وتلك هي أنانية الإنسان.

لكن مهما كانت صدمتنا في الأشخاص المقرّبين منا وخذلانهم لنا يجب أن تتحوّل هذه التجارب إلى مجرد ذكرى تمشي بهدوء بين جنبات عقولنا، حتى وإن كنّا نعي أنها موجودة، وتتخذ موقعها الطبيعي كغيرها من خبرات الحياة التي يجب أن تقوينا ولا تؤذينا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: