مارسيل خليفة يجوب مدن المغرب ويبحث في تراثه الموسيقي الأندلسي والشعبي والأمازيغي

ليس كل من يدندن مبدعا وليست كل معزوفة لحنا فتجليات الإبداع واللحن تكمن في امتلاك لغة حسية تخاطب الإنسانية باختلاف أعمارها وأعراقها ودياناتها، ولهذا فإن شغف الجمهور المغربي والعربي عموما بحب مارسيل خليفة لم يكن عبثا لأن تلك المرحلة من أعمارنا تكون بداية البناء الروحي والعقلي والنفسي، والاستمتاع معه هو تحصيل من أجل النجاح في جامعة الذوق الفني لأن الجمال لا يقاس إلا بالجمال وروح الجمال هي عين الابتكار. يقول: ألبير كامو «ليس الفن في نظري استمتاعا هزيلا بل هو وسيلة لتحريك أكبر عدد من الناس بأن يقدم لهم صورة مميزة للآلام والسعادة العامة».
مارسيل خليفة إذن هو فنان ومبدع كبرت معه أجيال غرفت من ألحانه وسافرت مع صوته العذب إلى عوالم المستضعفين .غنى للإنسان والقيم، غنى للقضية الفلسطينية والثورة وعاصر نكسات الأمة العربية، وكان صوته ذلك الألم الذي رسم على أوتار الإبداع ألحانا لا تنضب. يتجانس صوته مع قصائد محمود درويش، يطرق باب وجدننا بذلك الهمس الروحي فتنفتح شرف الكونية فينا نحارب بها كل المثل الدخيلة، تهتز المشاعر وتثور الدموع مخلفة وراءها انتصارات ونكسات كلها تجسدت في عناوين تكتب في كل أغنية ولحن جديد للفنان مارسيل خليفة.

الفن والجامعة

أسس مدرسته العالمية، طور، وجدد، وألف موسيقى للعالم، وليس فقط للأذن العربية. غنى للقضايا الإنسانية، ضد الجهل وضد الفقر وغنى للحرية. ومن خلال تواصل مارسيل مع جمهوره في كل بقاع العالم حل هذا الثائر المغرد بأرض المغرب عبر فعاليات الفن والجامعة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببنمسيك في الدار البيضاء. عبر خليفة في هذا اللقاء عن حبه للشعب المغربي الذي انصهر مع أغانيه الحماسية، وأمام حشد كبير من طلبة الجامعة قال مارسيل خليفة: «أثناء زيارتي لمدينة سبتة المغربية المحتلة قالت لي إني أحبك. فقلت لها أبادلك الحب نفسه». وكان الفنان الكبير يعني مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين فاهتزت قاعة العرض بتصفيق الحضور.
تحدث عن انجذابه للتراث المغربي الغني والمتنوع فقال: «أتمنى أن أرتوي من التراث المغربي الأصيل» حيث أعرب عن نيته افتتاح «معهد مارسيل خليفة للموسيقى والفن» في مدينة طنجة شمال المغرب. وفي رسالة مؤثرة لمحبيه قال الفنان اللبناني: «يا أهلي في المغرب سوف أضمكم إلى صدري وأهتف باسمكم، لأنني شبيه بالطفل الكبير الذي ينادي أمه وهو سعيد بترديد كلمة أماه… لكل واحد منكم أصدقائي وعشقي لكم يشبه أغنياتي».
لم تكن هذه الكلمة الرقيقة لمارسيل خليفة عن المغرب اعتباطية فهو بالفعل استقر في المغرب متنقلا بين كل مدنه وجباله، حاضرا في العديد من الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تنظم هنا وهناك.

قضية مارسيل

على يسار النوتة فيلم يتناول الأغنية السياسية كما يتناول الفيلم ظروف ظهور هذا النوع وأهم رواده كالفنان مارسيل خليفة وغيره ممن واكبت أغانيهم القضية الفلسطينية. ويعتبر هذا الفيلم من بين الأفلام القليلة التي توثق لهذا اللون الموسيقي وتعترف برواده في فترات من تاريخ العالم العربي. ويعتبر مارسيل خليفة من بين تلك القامات العالية في مجال ‏الأغنية السياسية وقد قدم للقضايا العربية الشيء الكثير بحيث كانت أغانيه عنونا للقضايا العربية مما جعل منه محبوبا في كل البلاد العربية وذلك لرقي فنه الملتزم الذي يتحدث في مواضيع تمس الوجدان العربي والإنساني بصفة عامة. وقد يطول الحديث عن مارسيل خليفة وأغانيه وألحانه التي تحمل صورا فنية إبداعية بداخلها فكل أغنية تحتاج فيلما أو دراسة تتعمق في مغزاها ومعناها بحيث استفاد من الشعر العربي الحديث حول مواضيع تتعلق بالقومية والثورة. يتميز أسلوبه بالتكامل بين الموسيقى العربية والأدوات الموسيقية الغربية. وقد قدّم حفلات موسيقية متنوعة وشارك في مهرجاناتٍ مهمة عبر أنحاء العالم.

مع درويش

في فترة المراهقة التي كان تشكل بالنسبة لمارسيل مرحلة فيصلية أحب فيها الموسيقى بشغف وكانت تتصادف هذه المرحلة مع الحرب اللبنانية حيث جعلت منه ينعزل عن العالم الخارجي جسدا وينفتح عليه من خلال دواوين محمود درويش فلحن العديد من القصائد وبحكم الوضع الذي كانت تمر به القضية الفلسطينية والحرب التي اندلعت في قريته الصغيرة صدرت أول اسطوانة له. وبعد مرور تلك الفترة جمعته بالشاعر العربي محمود درويش صداقة عمل من خلال الكتابة والإبداع. في حينه قال محمود درويش: «وأخيرا التقيت بالشخص الذي يلحن قصائدي بدون أخد الإذن مني». هذا التمازج الفني بين خليفة ودرويش تتوحد سماته بالألحان والكلمات الراقية التي استمرت لسنين تحكي لنا عن أوجاعنا وأفراحنا وعن تلك القيم التي تحيي فينا روح القومية العربية.
يقول مارسيل خليفة: «أنا مؤمن بتعدد الثقافات واللهجات في المغرب، وشاركت في العديد من الحفلات في مختلف المدن المغربية وأحب أن أتعلم من ذلك التنوع التراثي العريق « . خليفة يعكف حاليا على البحث في التراث المغربي ليستلهم منه قصد إنجاز عمل فني ينهل من ذلك. وحضوره للمغرب بشكل دائم ليس تخمة فنية أو لأجل السهرات فقط، فله عشاق من نوع خاص إضافة إلى حسه الفني الباحث عن النغمة كل حين، فالتراث الموسيقي والغنائي المغربي غني، سواء التراث الأندلسي أو التراث الشعبي المغربي الأمازيغي أوالجنوب الصحراوي الافريقي أو العربي يحاول دوما فهمه والتفاعل معه، فأغنية «عصفور طل من الشباك» غنوها بعشر لغات في العالم، تلك إشارة من مارسيل للانتباه إلى تراثنا لكي نغرف منه المزيد والمزيد، أعمال عدة له من التراث مثل «كونشرتو الأندلس» في قالب سيمفوني و«تهاليل الشرق» أيضا. التراث مهم والمغرب غني بالتراث ومتنوع، يقول مارسيل في زياراته، «ليتني مغربي لأعيش هنا فأكون غنيا موسيقيا». وسبق لمارسيل أن نال جائزة «زرياب» في مهرجان العود في مدينة تطوان التي تبعد عن مدينة طنجة بحوالي نصف ساعة.
موسيقى مارسيل عالم آخر فالمستمع يستطيع تحديد مصدر رأيه متسلحا بالتجربة المقارنة التي كونها على اثر عمليات سماع متتابعة، هذا إذا اعتمد على علم الموسيقى، إضافة إلى ذلك أن الناقد عليه في الوقت نفسه أن يتفهم شخصية الفنان الإنسان المبدع الذي يجدد من أجل أن يعتلي في أرواح مستمعيه. فالناقد الكوني والإنساني بمفاهيمه الشاملة يمكن لرؤيته أن تحدد فلسفة اللحن والصوت الذي يسافر بالمستمع إلى مجرات كونية بروحانيته تلك يمكن له وفي سفيرته هذه أن يتلمس معاني الجمال في الأفاق والأنفس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: