الحكومات تفشل في محاسبة الأثرياء فتنقل الأعباء إلى الضعفاء

يعيش العالم في السنوات الأخيرة، حربا متعدّدة الأبعاد بين الطبقات الاجتماعية أو بين الفقراء والأغنياء، ما أشعل فتيل الاحتجاجات في دول عديدة لم تقتصر هذه المرة على البلدان النامية المتعوّدة على الأزمات الاجتماعية والاقتصادية بل ضربت أيضا أعتى الدول المتقدّمة كفرنسا التي مازال يعاني نظامها السياسي من تمرّد الطبقات الضعيفة التي تقود تحركاتها حركة السترات الصفراء.

اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء

رغم أن جل المتابعين لتطورات الوضع العالمي الذي يعيش مرحلة مخاض عسيرة، اختاروا نفس التوصيفات الكلاسيكية من قبيل إبراز إكراهات وخيبات الرأسمالية أو الليبرالية المتوحشة، إلا أنهم غفلوا في جانب كبير ضمن تحليلاتهم وتأويلاتهم عن ذكر أهم العناصر المساهمة بشكل كبير في توسيع الفجوة بين طبقات المجتمع أو بين رؤوس الأموال والطبقة المتوسطة والفئات الأكثر فقرا في العالم.

ويعتبر أهم خبراء الاقتصاد في العالم، أن مشكلة بلوغ الليبرالية إلى مرحلة الموت السريري لا ينبع من مفهومها الشامل بقدر ما يكمن في آليات تطبيقها وتنزيلها على المجتمعات وهو ما حوّل العالم إلى مرحلة يُرفع فيها شعار “البقاء للأقوى”، بفضل انتهاج سياسات متعمّدة على رأسها غياب التوازن في دفع الضرائب بين الطبقات، حيث أصبحت الدول ورؤوس الأموال تتمعّش من كتلة الضرائب الهائلة التي يدفعها الفقراء للدول.

هنا، تؤكّد بيني بيانيما، المديرة التنفيذية لمنظمة أوكسفام إنترناشيونال الخيرية، أن النظم الضريبية التي تثقل كاهل الفقراء تعني أن الخدمات العامة لا تجد التمويل الكافي مما يوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء ويشعل غضبا عالميا.

بيني بيانيما: النظم الضريبية المثقلة لكاهل الفقراء توسع الفجوة بينهم وبين الأغنياء
بيني بيانيما: النظم الضريبية المثقلة لكاهل الفقراء توسع الفجوة بينهم وبين الأغنياء

وقالت المنظمة في تقرير إن العام الماضي شهد ظهور ملياردير جديد كل يومين في الوقت الذي شهد فيه الأكثر فقرا، وهم نحو نصف سكان العالم، ثرواتهم تتناقص بنسبة 11 بالمئة.

وصدر التقرير الاثنين في حين يجتمع قادة الأعمال والزعماء السياسيون في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، وقال إن الحكومات تقلص باستمرار الإنفاق على الخدمات العامة وعادة ما تفشل في مكافحة التهرب الضريبي.

وقالت بيانيما في مقابلة إن ثروات المليارديرات زادت بنسبة 12 بالمئة العام الماضي أو بمعدل 2.5 مليار دولار يوميا في حين تقلصت ثروات 3.8 مليار شخص هم الأكثر فقرا في العالم بمعدل 500 دولار يوميا.

وقالت أوكسفام إن الضرائب المفروضة على الأغنياء وعلى الشركات جرى تخفيضها في العقود الأخيرة. وتابعت بيانيما أن الحكومات عندما تفشل في محاسبة الأثرياء ضريبيا تنقل العبء الضريبي إلى الفقراء عن طريق ضرائب على الاستهلاك مثل ضريبة القيمة المضافة.

كل هذه الإرهاصات التي عمقت الهوة بين الطبقات ترجمتها على أرض الواقع الاحتجاجات الأخيرة التي ضربت فرنسا، فرغم أن البلد يعدّ من أعتى النظم الديمقراطية في العالم، ويعتبر أيضا أكثر الدول انضباطا في ما يتعلق بوجوب دفع الضرائب إلا أن ما عرف بتمرّد “الفقراء البيض”، أي السكان الأصليين في فرنسا، كشفت وجود عدم توازن بين دافعي الضرائب حيث تتكبد الطبقة الوسطى الجزء الأكبر من الجباية التي تضخ في خزينة الدولة.

وفي قلب الاحتجاجات على نظام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحتى بعد أن قدّم تنازلات لفائدة محتجي السترات الصفراء، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن فرنسا تخطت الدنمارك لتسجل أعلى إيرادات ضريبية بين البلدان المتقدمة، حيث شهدت حصيلة الضرائب الحكومية مستوى قياسيا مرتفعا في أرقام لن تساعد إيمانويل ماكرون على تهدئة المحتجين الغاضبين بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة.

وقالت المنظمة إن إجمالي إيرادات الضرائب الحكومية بلغ في المتوسط 34.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي بين الدول الأربع والثلاثين المتقدمة، التي جمعت بياناتها المنظمة التي تتخذ من باريس مقرا لها.

وأضافت أنه على الرغم من أن الزيادة طفيفة مقارنة مع 34 بالمئة في 2016، فإن الرقم الجديد هو أعلى متوسط لإجمالي الضريبة منذ أن بدأت تسجيل البيانات في 1965.

وتأتي هذه الزيادات الضريبية، في وقت علت فيه أصوات الأحزاب المعارضة وخاصة اليسارية في فرنسا والمنتقدة للتهرّب الضريبي لعدة شركات كبرى ورؤوس أموال اختارت تكديس أموالها في جنان ضريبية معروفة وأهمها في دولة بنما.

مساواة ضريبية

Thumbnail

في المنطقة العربية، يمكن الحديث عن مثال تونس التي تشهد أجواء مشحونة تتمحور أسبابها أساسا حول مسألة عدم المساواة في دفع الضرائب.

وتتهم بعض الأحزاب اليسارية أو المنظمات النقابية حكومات ما بعد ثورة يناير 2011 بمواصلة السير في نفس النهج القائم على إثقال كاهل الطبقات الضعيفة بالضرائب والأداءات لضمان التوازنات المالية للبلاد.

وأكد اللأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نورالدين الطبوبي في أكثر من مناسبة  أن “إن التهرب الجبائي في الديمقراطيات العريقة يعد من “الكبائر” بينما يستهان بالأمر في تونس، مضيفا أنه “من غير المعقول أن يدفع على سبيل المثال الطبيب في القطاع العام جباية أرفع بكثير من الطبيب في القطاع الخاص”، لذلك لا بد من رقابة فعلية وعلمية ومعلوماتية لوقف ما يسميه “بالتلاعب” في الواجب الجبائي.

وتشير معطيات حكومية تونسية إلى أن 70 بالمئة من المتأتيات الجبائية للدولة يدفعها الأجراء والعمال بينما لا يدفع محتكرو ثروة البلاد إلا قسطا بسيطا من واجبهم الجبائي.

وفي هذا الملف بالذات تعاني العديد من الدول الأخرى، علاوة على التهرب الضريبي من تساهل أجهزة الدولة مع المتهربين من رؤوس الأموال أو الشركات الضخمة، حيث لا تسعى الحكومات إلى استخلاص متخلداتها الجبائية المتعلقة بعديد المؤسسات والشركات الضخمة كالخطايا والتهرب الجبائي، بل وعلى العكس من ذلك تقر لهم بمبدأ العفو الجبائي.

وبعيدا عن الطرح المحمّل من الناحية الفكرية كل الفشل إلى بنيوية النظام الليبرالي فإن  كل المعطيات على ارض الواقع تشير إلى أن الجنان الضريبية التي تحميها بعض الدول التي تدّعي أنها عادلة ساهمت في خلق نوع من الحقد الطبقي بين الفقراء والأغنياء.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: