إطلاق سراح المتطرفين… إختبار جديد لمنظومات الأمن الأوروبية

عزّز إطلاق سراح الداعية المتطرف البريطاني أنجم تشودري الذي حكم عليه منذ عام 2016 بالسجن خمس سنوات ونصف السنة بسبب تورطه في محاولة تنظيم وتأسيس تنظيم جهادي مسلح، مخاوف البريطانيين على وجه الخصوص وتوجسات الأوروبيين بصفة عامة من المخاطر التي قد تسببها مغادرة العديد من الأشخاص المدانين في قضايا إرهابية زعزعت في السنوات الأخيرة أمن واستقرار العديد من العواصم الأوروبية وفي مقدمتها لندن وباريس وبروكسل.

حول كل هذه النقاط تحدث مايكل كيني الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية عام 2002 وتخصص في دراسة وتتبع الحركات الإسلامية وصعودها في أوروبا ، عن تحليله لتحركات الإرهابيين على مواقع التواصل، والتي تضمنها كتابه “الدولة الإسلامية في بريطانيا.. التطرف والمرونة” وعن رؤيته للمخاوف من المنظومة الأمنية الحاكمة لدحر التطرف ومنع تفشيه في أوروبا.

لا تزال العديد من الدول الأوروبية تتخبط في إشكاليات مواجهة التطرف والمجموعات المتشددة، تزامنا مع اقتراب إطلاق السجون سراح العديد من المدانين في جرائم إرهاب، مما أثار مخاوف الأوروبيين، ويعزز حتمية البحث عن آليات جديدة للحد من انتشار هذه الجماعات المتطرفة، ولا يكون ذلك إلا بمزيد تتبع الحركات الإسلامية المتشددة.

ساهمت العديد من الضربات الإرهابية التي عصفت بلندن في السنوات الأخيرة، في تجند العديد من الكتاب والمثقفين لإصدار كتب ومقاربات علمية للحد من تزايدها ومن ذلك صدور كتاب “الدولة الإسلامية في بريطانيا..التطرف والمرونة” للكاتب مايكل كيني الذي يشدد في مقارباته المطروحة على وجوب أن توفر العواصم الأوروبية ضوابط أمنية جديدة للتعامل مع الأشخاص المدانين في قضايا إرهابية.

ويقول مايكل كيني  إن أوروبا تحتاج إلى ضوابط أمنية جديدة تطبق على كل من أُطلق سراحهم لضمان عدم العودة للنشاط الدعوي المتطرف، الذي قادته حركة “مهاجرون” المتشددة، وكانت سببا مباشرا لخلق خلايا راديكالية أضحت خطرا على أوروبا، ومركزا لهجرة المتطرفين لداعش في سوريا والعراق.

وعاد الجدل مجددا في بريطانيا بقوة عندما أطلقت السلطات البريطانية سراح الداعية الإسلامي المتشدد أنجم تشودري، لتنتشر في الأوساط الإعلامية والسياسية العديد من الروايات والتصورات حول مستقبل المئات من أقران تشودري المتطرفين في السجون الأوروبية، والذين باتوا قريبين من قضاء مدة السجن والخروج مرة أخرى.

واندلعت مخاوف لدى البريطانيين الذين مازالوا تحت تأثير صدمات الهجمات الإرهابية المتتابعة منذ عام 2016 وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء رغم محاولات الحكومة تسكين مخاوف العامة بالتأكيد على أن السلطات الأمنية ستضع تحركات تشودري (51 عاما)، والملقب إعلاميا بـ“واعظ الكراهية”، تحت نظام مراقبة صارم.

ولعب تشودري دورا بارزا في تجنيد واستقطاب المئات من الشباب المسلم في بريطانيا منذ تأسيس حركة “مهاجرون” عام 2009 مع أستاذه الداعية الإسلامي السوري – البريطاني المثير للجدل عمر بكري، وجاءت الحركة امتدادا لحزب التحرير المتشدد، الذي ظهر مكتبه في لندن مع نهاية السبعينات لتحقيق هدف الحزب الأسمى وهو توحيد المسلمين لإعادة الخلافة الإسلامية.

حملت مواقف تشودري وتأييده هو وأستاذه بكري، لداعش وكل عمل إرهابي مسلح ضد الغرب دائرة مغلقة لشكل التطرف في بريطانيا وأصوله وجذوره، وهو ما أشار إليه صدور الكتاب البحثي للخبير الأمني وأستاذ الشؤون الدولية بجامعة بيتسبرغ الأميركية مايكل كيني بعنوان “الدولة الإسلامية في بريطانيا.. التطرف والمرونة” الشهر الماضي، وجاء مرفوقا بتساؤلات كبيرة أثارتها دوائر غربية كثيرة بعد الإفراج عن الزعيم المتشدد.

جدل يرافق إطلاق سراح الداعية الإسلامي المتشدد تشودري الذي لعب دورا بارزا في تجنيد واستقطاب المئات من الشباب المسلم في بريطانيا منذ تأسيس حركة "مهاجرون" عام 2009
جدل يرافق إطلاق سراح الداعية الإسلامي المتشدد تشودري الذي لعب دورا بارزا في تجنيد واستقطاب المئات من الشباب المسلم في بريطانيا منذ تأسيس حركة “مهاجرون” عام 2009

ويتناول الكتاب جذور التطرف في المملكة المتحدة، بداية من حزب التحرير الداعي لعودة الخلافة الإسلامية والذي تأسس عام 1953 بالقدس مرورا بحركة “مهاجرون” والتي أدت في النهاية لظهور عناصر وخلايا نائمة لداعش أضحت قادرة على التنسيق والتخطيط لعمليات إرهابية مؤثرة في بريطانيا وأنحاء أخرى في أوروبا.

ويقول كيني إن “إطلاق سراح تشودري تحت شروط وبنود صارمة أمر جيد طالما نفذت بحذافيرها، لأنها تضعه تحت رقابة صارمة وتأتي بعد تقارير أمنية استخباراتية تؤكد تمتعه بحسن سير وسلوك، والسلطات الأمنية لن تسمح بخروج قيادي إسلامي مهم مثل تشودري إلا بعد التأكد من انخفاض مخاطره على الأمن العام، وقدرتها على تولي تلك المسؤولية الحساسة والحرجة”.

ويضيف “التحدي الحقيقي سيكون بعد انتهاء مدة إطلاق السراح المشروط، وهو ما يعني السماح له بممارسة حياته الطبيعية والاحتكاك مع أطياف مختلفة بالمجتمع، والعودة لأحاديثه في وسائل الإعلام، والتي دائما ما تفسح له المجال للحديث، وهنا ستكون الحكومة البريطانية أمام تحد آخر، وهو ضمان عدم عودته لأنشطته المتطرفة السابقة، وربما يحتاج ذلك إلى ضوابط إدارية أخرى”.

وتتناسق آراء كيني حول ضرورة إيجاد ضوابط جديدة مع ما طالب به عدد من الخبراء، مع ظهور قلق مصاحب لإطلاق سراح المئات من المدانين في قضايا تطرف في عدد من الدول الأوروبية.

وفي بريطانيا من المنتظر أن يغادر نحو 40 بالمئة من المتطرفين في السجون خلال الأشهر المقبلة، والذين قامت الحكومة بعزلهم جميعا خلال الأعوام الثلاثة الماضية داخل سجون خاصة، خوفا من تحول السجون إلى بؤر لتفريخ المتطرفين.

أما في فرنسا فيوجد بحسب صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية، في السجون 1200 معتقل في قضايا حق عام تحولوا إلى متطرفين، و450 مدانا في قضايا تتعلق بالإرهاب بالسجن سوف يفرج عنهم مع نهاية العام المقبل.

وتحمل تلك الأرقام الكبيرة الكثير من الجدل حول ضرورة إيجاد حل شامل بوتيرة سريعة لمواجهة الخطر الذي قد يهدد أوروبا ويطلق مرحلة جديدة من التطرف والعنف، وسعت بلدان، منها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا مؤخرا إلى إطلاق منظومة تجريبية عبر تكوين لجان تكون مختصة بتقييم ومراقبة المدانين في قضايا الإرهاب، على أن يتم وضع المعنيين، قبل مغادرتهم، في مراكز تقييم التطرف.

ويخضع هؤلاء السجناء لتدريب يشمل التربية والإعداد النفسي، فضلا عن “التنقية الدينية” لمدة أربعة أشهر، يلي ذلك تقييم وتدقيق لمواقفهم المتطرفة، وهو ما سيتيح إمكانية تصنيفهم، ولكن لا يتفاءل البعض من المراقبين بتلك الصيغة لقربها من التجربة الأميركية في معتقل غوانتانامو، والتي انزاحت عن دورها في محاربة التطرف ووقعت انتهاكات جسيمة بحق معتقلين.

جذور التطرف

مايكل كيني يشدد في كتابه "الدولة الإسلامية في بريطانيا.. التطرف والمرونة" على وجوب وضع أوروبا ضوابط جديدة للتعامل مع الأشخاص المدانين في قضايا إرهابية
مايكل كيني يشدد في كتابه “الدولة الإسلامية في بريطانيا.. التطرف والمرونة” على وجوب وضع أوروبا ضوابط جديدة للتعامل مع الأشخاص المدانين في قضايا إرهابية

في كتابه الأخير، حاول كيني استنباط الكثير من أسرار امتداد شبكة الإسلام السياسي داخل بريطانيا عن طريق تتبع التاريخ السياسي الدعوي لحركة “مهاجرون”، التي أسسها عمر بكري بعد انفصاله عن حزب التحرير، بسبب خلاف فكري حول ضرورة توجيه النشاط الدعوي نحو هدف تحويل بريطانيا إلى دولة تطبق الشريعة الإسلامية، وهو ما جاء عكس رغبة قيادات الحزب في لندن الذين اهتموا بنشر الدعوة العالمية نحو ترسيخ أيديولوجية الخلافة الإسلامية في الأذهان أولا.

وظلت “مهاجرون” على مدار عشرة أعوام تعمل بحرية في استقطاب الآلاف من الشباب في مختلف بلدان أوروبا ما دفع في النهاية لخروج الكثير من التيارات المتشابهة في أنحاء القارة من رحم تلك الحركة، وأبرزها “الشريعة من أجل بلجيكا” و”مجاهدون في الدنمارك” وغيرها.

وأوضح كيني , أن “مهاجرون” جاءت امتدادا لمكتب حزب التحرير الإسلامي في لندن، ثم أصبحت الحركة بعد ذلك أحد بذور نشأة تنظيم داعش وهجرة المئات من الأوروبيين إلى سوريا والعراق، مؤكد أن “الجميع سواء حزب التحرير أو ‘مهاجرون’ ومن بعد ذلك داعش اختلفوا في طريقة التنفيذ، لكنهم اتفقوا على منظور واحد، هو ضرورة تكوين خلافة من جديد تقود الأمة الإسلامية، دون ممانعة عن استخدام العنف والسلاح لتحقيق ذلك الهدف السامي”.

اعتمد كيني في دراسته الواسعة على إجراء حوارات مع 48 ناشطا على مدار خمس سنوات ارتبط بعضهم حتى اللحظة بحركة “مهاجرون”، وجاء ذلك عبر مقابلات مباشرة معهم لمحاولة فهم وتفنيد الأيديولوجية التي دفعت هؤلاء الشباب للانضمام للحركة المتشددة.

ويعلق كيني على تلك الأدوات البحثية بأنها “ساعدت إلى حد كبير في تفسير إيمان الشباب بكون انضمامهم لتلك الجماعات جعلهم جزء من حركة إسلامية عملاقة قادرة على قيادة الأمة المسلمة نحو المجد والعزة، وهي جزء من رغبتهم في الشعور بانتماء لكيان يعبر عنهم وعن طبيعة نشأتهم الدينية والفكرية”.

ويتابع “اختار لأن أقوم بتلك الحوارات أكثر من مرة مع كل ناشط للوصول لنقاط وجدانية أبعد لفهم طبيعتهم الإنسانية ومشاعرهم التي ألقت بهم إلى تلك الاتجاهات السياسية، فكان ملاحظة حركة الجسد ونظرات العين وطرق التعبير قادرة على عكس الكثير من أرائهم وليس فقط تدوين ما يقولونه”.

وبدت لندن منذ عقود طويلة، معقلا لجماعات الإسلام المتطرّف بتيّاراته المختلفة، لأن قوانين الهجرة (قبل تعديلها وتشديدها) منحت اللجوء السياسي بسهولة لكثير من الإسلاميين، من بينهم مؤسس “مهاجرون” عمر بكري الذي حصل على الجنسية البريطانية، وكان أحد الذين طالتهم أصابع الاتهام بتنفيذ تفجيرات لندن عام 2005 والتي راح ضحيتها أكثر من 50 شخصا، فتحولت بريطانيا إلى أرض خصبة للتجنيد والتوسع في الحركات الأصولية المتطرفة.

وكشفت دراسة أعدها مركز الاتساق الاجتماعي البريطاني عن الحركات الإسلامية المتشددة في بريطانيا خلال فترة نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة، عن الرؤية التي امتلكتها تلك الجماعات والقائمة على مساعي إقامة دولة عظمى توسعية في الدول ذات الغالبية المـسلمة، إلى جانب توحيد المسلمين في كل أنحاء العالم ككـتلة سـياسية.

وأوضحت أن الحركات الإسلامية تبنت استراتيجية “دار حرب، لا دار إسلام” واعتمدت الجهاد، في غير الأراضي المسلمة، وعلى الرغم من اختلاف الرؤى السياسية لكل جماعة، اجتمعوا على منهجية إقامة دولة إسلامية في البلدان الغربية.

ويعزز كيني تلك الأطروحات قائلا “بريطانيا كانت ساحة نشطة للحركات الإسلامية المتشددة والمتطرفة عبر السماح لتلك الجماعات بالعمل بحرية في المجتمع للدفاع عن بعض القضايا السياسية الدولية، وجماعة مثل الإخوان المسلمين في بريطانيا ركزت عملها السياسي والدعوي خلال فترة من 2006 إلى 2010 على دعم القضية الفلسطينية، بينما اختارت حركات أخرى مثل حزب التحرير العمل بشكل أوسع على فكرة نشر الإسلام السياسي القائم على مظلة الكيان الموحد الممثل في الخلافة الدينية”.

ويعتقد كيني أن أنصار “مهاجرون” اختلفوا عن الحركات الأخرى في طريقة عملها داخل المجتمع البريطاني والجاليات المسلمة هناك، فقيادات الحركة سعت لمحاولة إعداد المجتمع البريطاني عبر ضخ فلسفة الخلافة في العقول من خلال العمل الدعوي في المساجد والمعاهد المسلمة التي لم تخضع لرقابة كافية من المسؤولين، واختارت التجنيد وسيلة لنشر أوسع وأعمق يكون نواة بعد ذلك لعمل أكثر رحابة والذي جاء ممثلا في تنظيم داعش.

معاقل سلفية

Thumbnail

شرح مؤلف كتاب “الدولة الإسلامية في بريطانيا” سمات المتشددين التابعين لحركة “مهاجرون”، وهم بشكل عام لا يأتون من نشأة علمية كبيرة، ويعود أغلبهم إلى خلفية علمية متواضعة، لكن التغيير الذي بدا ملحوظا عند مقارنة المتطرفين الحاليين بالسابقين قبل عشرين عاما، هو أن هؤلاء المتطرفين الحاليين بريطانيون ولدوا وعاشوا في المملكة المتحدة على عكس السابقين الذين جاؤوا نازحين من بلدان إسلامية.

ويرى كيني أن الفصل بين السلفية الجهادية بشكل عام وايديولوجية “مهاجرون” مسألة شديدة التعقيد لما تحمله أفكارهما من تشابه في الأصولية والتزمت في الكثير من مناحي الحياة والتشبث بالفقه الإسلامي المتشدد، لكن هذا لا يتعارض مع فكرة استقلالية الحركة البريطانية عن بقية الجماعات الإسلامية من ناحية الإدارة والدعوة.

ويؤكد أن فهم الفوارق الفكرية بين كل جماعة إسلامية مهم للغاية لتفسير الدوافع والطرق المكتسبة للتجنيد والإدارة، وأن “مهاجرون” لم يتبنوا الحل المسلح بشكل واضح ومباشر، لكن اختاروا تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا ودول أوروبية أخرى كنهج يؤدي لتحقيق هدف إقامة الدولة الإسلامية بشكل عام.

ينطبق ذلك بوضوح مع الأمنية في تحويل بريطانيا إلى “إمارة إسلامية في المستقبل عن طريق تطبيق شرع الله”، وهو ما بدأه كلا من أنجم تشودري مع أستاذه عمر بكري عندما أسسا محاكم شرعية تطبق القانون والشريعة الإسلامية، بعيدا عن القانون البريطاني في أجزاء من شرق لندن عام 2011، وهو ما جاء وفقا لاعتقاد تشودري كجزء من تحقيق أهداف ما قامت عليه كافة الحركات الإسلامية السياسية.

وبحسب كيني، فإن أكثر الأنماط التي تميز الحركة الإسلامية الأهم والأخطر في بريطانيا “مهاجرون”، وهي المرونة والقدرة على التمدد والانكماش وفقا للحالة السياسية في أوروبا.

ويعزز فرضيته بقدرة الحركة على تغيير جلدها وقياداتها المعروفة سريعا بغاية الهروب من القبضة الأمنية والرقابة المشددة. وجاء من ضمن تلك الوسائل تغيير “مهاجرون” اسمها أكثر من مرة، ومن بينها أسماء “إسلام من أجل بريطانيا” و”مسلمون ضد الصليبيون” للهروب من الحظر.

ويستبعد كيني أن يمثل خروج متطرفين من السجون مرحلة جديدة من الإرهاب في أوروبا لأسباب متعددة؛ أبرزها ضعف شبكة التواصل بين أعضاء الحركات الإسلامية الأوروبية، وظهور داعش كقوة مهيمنة وجاذبة لاستقطاب العناصر الراديكالية، ما أضعف عمل الجماعات الأخرى، واعتماد حركة “مهاجرون” وغيرها على بث أفكارها وتجنيد الأفراد عبر الجلسات الخاصة والحلقات الدينية بعيدا عن استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الأكثر شمولية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: