في فن التقطيع النظيف: «الغرب» بوصفه مرجعية أخلاقية

لا يمكن اعتبار الاغتيال السياسي وتصفية المعارضين حدثاً غريباً عن التراث العالمي في كل عصوره وثقافاته. وكثيراً ما ترسخت حوادث قتل معينة في الذاكرة الأدبية والتاريخية لتصبح مصدر إلهام لا ينقطع للفكر الإنساني: مقتل يوليوس قيصر، التنكيل بابن المقفع وبشار بن برد، اغتيال الرئيس جون كيندي والفنان البريطاني جون لينون ورئيس الوزراء السويدي أولوف بالمه.
اعتبار الاغتيال والتصفية فعلاً ملازماً للسياسة لا يعني شرعنتهما أو تبريرهما، بل هو يطرح دوماً عدداً من الأسئلة السياسية والأخلاقية عن طبيعة المجتمعات والأنظمة السياسية التي يتم فيها هذا النوع من الأفعال، والطريقة التي تدير بها شؤونها وتتعامل مع صراعاتها الداخلية. في السياق العربي المعاصر كان الاغتيال السياسي، إلى جانب وسائل أخرى، مثل التنكيل الجماعي والمجازر، أساليب معروفة ومتداولة في تحقيق الغلبة الاجتماعية والسياسية، تمارسها الدول بحق رعاياها، أو حتى الجماعات والطوائف والمليشيات ضد جمهور خصومها السياسيين والعقائديين. هل حقاً يعتبر التقطيع والتذويب والقتل تحت التعذيب حدثاً مفاجئاً أو صادماً في أي سياق عربي؟
إلا أنه في حالة الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بغض النظر عن أسبابها ونتائجها، والمكانة السياسية والرمزية للمجني عليه، ليس الغريب حادثة القتل بحد ذاتها أو الوحشية التي تمت بها، بل انعدام الكفاءة التام والمثير للسخرية الذي أظهره الجناة. ودلالته الاجتماعية والأخلاقية.
أبدت الأنظمة الديكتاتورية العربية لسنوات طويلة شيئاً من الكفاءة والذكاء في توطيد سلطتها وترويع خصومها. الحوادث التي تُصنف بوصفها «إرهاب دولة»، مثل تصفيه النظام السوري لصلاح البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. أو قتل المناضل المهدي بن بركة على يد النظام المغربي، كلها كانت عمليات تحقق حداً أدنى من النجاعة العملية، سواء من ناحية التنفيذ، التي تترك هامشاً، ولو بسيطاً، للشك في هوية القتلة، وتعفي الأنظمة من الاضطرار للاعتراف المذل. أو من الناحية السياسية، فهذه العمليات كانت دائما تملك غطاءً سياسياً ودولياً ما، يعفي المجرمين من المحاسبة والعواقب الكارثية لفعلتهم.
في أيامنا يغيب حتى هذا الحد الأدنى الهزيل، فنرى تصرفات لا تليق بزعماء مليشيات من الدرجة الثالثة: دولة تستدرج أحد مواطنيها في أرض أجنبية إلى قنصليتها، ليدخلها تحت عدسات الكاميرات بدون أن يخرج منها. وقتلة يصلون إلى مكان الجريمة بموكب من السيارات الفاخرة، قبل فترة قصيرة من تنفيذ مهمتهم. وكل هذا يحدث في دولة من الواضح أنها لن تتسامح مع هذه الجريمة، وفي شرط دولي غير مستعد لتأمين الغطاء السياسي لها. كثيرون تحدثوا عن رثاثة مؤسسات الدول العربية في مجالات مثل الصحة والتعليم والاقتصاد والسياسية، ولكن الجميع كان يظن أن لهذه الدولي أجهزة أمنية قوية وأكثر تطوراً من بقية المؤسسات. هذا الظن أثبت خطأه، فعملية الاغتيال المفضوحة هذه قامت بها دولة كبيرة وغنية، من المفترض أنها تملك مستشارين أمنيين وعسكريين، ومختصين في السياسة والدبلوماسية، حتى في العنف العاري لم تعد هذه الدول تملك شيئاً من الكفاءة.

أبدت الأنظمة الديكتاتورية العربية لسنوات طويلة شيئاً من الكفاءة والذكاء في توطيد سلطتها وترويع خصومها

انعدام الكفاءة المثير للشفقة هذا لا يقتصر على السعودية، بل هو شرط عربي عام، نراه في سوريا وأسلوب نظامها في القتل الجماعي باستخدام أسلحة محرمة دولياً، وفي العراق الذي لا يهتم سياسيوه حتى بإظهار قشور شكلية لدولة تهتم بمواطنيها، بل يكشفون وجها وقحاً لسلطة قائمة على النزاعات والمحاصصات العشائرية والطائفية. كذلك في مصر، وما تشهده من أحكام إعدام وسجن هزلية ضد المعارضين، بدون احترام، ولو شكلي، لمبادئ استقلال القضاء وحقوق المواطنة. القائمة تطول، ولكن الواضح أن هذه «الدول» لم تعد دولاً حتى في ما يتعلق بفرض هيبتها وسلطتها الديكتاتورية. إلا أن مسألة غياب الكفاءة ترتبط بمسألة أكثر عمقاً، وهي الإطار الأخلاقي الذي تتم ضمنه كل هذه الممارسات. كثير من الأعمال القمعية والإرهابية في التاريخ ارتبطت بمبادئ أخلاقية معينة لدى الدول والمجتمعات التي حدثت بها. فمهما كان فاعلوها متعطشين للسلطة والنفوذ، امتلكوا على الأغلب فضائل وأهداف معينة، لعبت دوراً في تقديم رواية متماسكة تبرر أفعالهم أيديولوجياً.
الرثاثة المؤسساتية والوطنية العامة التي تنتج انعدام الكفاءة لا تقتصر على المجال السياسي والسلطوي، بل تطال الجانب الثقافي والأخلاقي أيضاً، الجرائم اليوم لم تعد تُبرر بـ»الأمة» أو «الشعب» أو حتى «الدين»، بل تقوم على منطق غلبة شديد البدائية: هنالك عائلات أو مجموعات أو أفراد يريدون أن يفرضوا سلطتهم بأي وسيلة، فقط لأنهم يستطيعون ذلك. وهذا لا يسبب أي أزمة أخلاقية لهم أو لأنصارهم. كثيرون متفقون على المبدأ التالي: أفعل ما تشاء ما دمت ترى أنه سيؤدي لتحقيق غاياتك. لا يمكن تشبيه هذا بالطبع بالميكافيللية، التي اعتمدت على أسس سياسية وأخلاقية أكثر رقياً بكثير. الأمر الوحيد الذي يجبر هذه الأنظمة والجماعات على إعطاء بعض التبريرات والحجج هو «موقف الغرب»، والتحسّب من ردة فعله، ما يدفع بعض الفاعلين السياسيين والسلطويين للتزلف لبعض ما يُظن أنه مطالب أو قيم غربية، مثل الإصلاح السياسي والديني، حماية الأقليات، محاربة الإرهاب، الخ، ومحاولة التستر على الجرائم المرتكبة أو التنصل منها. الغرب يبدو هنا وكأنه مصدر القيم الوحيد، أو الضمير الأخلاقي المتعالي. ما يجعلنا نتساءل: ماذا كنا سنفعل ببعضنا بعضا، وإلى أي درجة أكثر من هذا كنا سنصل، لو لم يكن هذا الغرب موجوداً بوصفه سلطة أخلاقية فعلية أو متخيلة؟
المشكلة أن الغرب، أياً كان المقصود بهذا اللفظ، لا يسعى أو يهتم دائماً بلعب هذا الدور، ورغم الأيديولوجيا المعلنة لبعض الحكومات والمؤسسات في الدول الغربية عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، إلا أن هنالك ميلاً، له أسباب معقدة، للانسحاب من التدخل المباشر في المنطقة، والاكتفاء بمنطق «إدارة الأزمة» في التعامل معها. تستطيع كثير من الدول والمؤسسات الغربية أن تكون متواطئة أو مشاركة أو لامبالية بما يحدث في الدول العربية، لأنها بكل بساطة ليست ضميرنا الغائب، ولم تعد تسعى كثيراً حتى لادعاء هذا. المقولات المتداولة عن «الغرب المنافق»، «الصمت الدولي» و»الكيل بمكياليين»، أو حتى «الغرب الاستعماري»، تبدو، إلى جانب عدم نضجها، متناقضة إلى درجة غريبة. فشتّامو الغرب يفترضون بمقولاتهم ضمنياً أنه هو السلطة الأخلاقية، وينصبّ غضبهم عليه لعدم قيامه بدوره. ما يجعلهم يمجدّونه لأقصى درجة رغم نقمتهم، أو بسببها بالذات: إنه الفاعل الوحيد، المصدر المتعالي لكل خير أو شر.
رغم النقمة العامة التي أثارها مقتل خاشجقي، إلا أن لمعظم المعلقين العرب نمطهم المحبب من الجرائم التي يمكن تبريرها أو السكوت عنها: البعض يؤيد النظامين السوري والإيراني. البعض الآخر لا مشكلة لديه مع عنف الإسلاميين، «المعتدلين» منهم و»الراديكاليين»، والدول الداعمة لهم وجرائمها. هنالك من ذرف الدموع على جثة خاشقجي المقطّعة، ويرى في الوقت نفسه ما يبرر صور الأحشاء المتناثرة للطفل العراقي حمودي المطيري.
في بلدان توصف بالمتدينة، فشل الدين في إنتاج روادع وأطر أخلاقية على المستوى الاجتماعي، يمكن من خلالها إدانة هذا النوع من الأعمال أياً كان فاعلها ومبرراته. عندما يصبح الدين بمؤسساته غير معني بالأخلاق وقيمة الحياة الإنسانية، وينشغل بالأيديولوجيا والتسلط، وإعطاء مبررات للقتل والوحشية في كثير من الأحيان، فيمكننا أن نفهم أحد أهم أسباب التآكل الأخلاقي العام. ليست بقية الأيديولوجيات بأحسن حالاً، فحتى من ثاروا لأجل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، لم يهتموا كثيراً بإدانة جرائم مروعة وقعت على أيدي «الثوار»، مثل انتهاك وقتل الزعيم الليبي معمر القذافي بوحشية، بدون محاكمة ولو صورية، أو صمت كثير من الثوار المصريين على المعاملة اللاإنسانية التي يلقاها الرئيس المخلوع (والمنتخب) محمد مرسي في سجنه.
إذا كان الدين والمبادئ الديمقراطية الثورية، أو حتى العرف الاجتماعي غير قادرة على إنتاج حس ومسؤولية أخلاقية لدى هذه المجتمعات، وبغياب أي قواعد ومؤسسات لإنتاج القيم والمشتركات، فلن يكون خاشجقي بالتأكيد هو الأول أو الأخير. المسألة لا تتعلق وحسب بطغاة مجانين يتصرفون بدون مسؤولية أو محاسبة، بل بانهيار حضاري عام، يشمل كل النواحي: السياسة والمجتمع والثقافة والأخلاق. وسط هذه الأرض اليباب يبدو الغرب إسقاطاً لكل العقد والهلاوس، ووثناً سحرياً غامضاً، فهو المشكلة والحل، الشرير والمخلّص، السلطة الأخلاقية ومصدر الفساد، وإلى أن نصبح قادرين على تولي مسؤولية أنفسنا، سيستمر الغرب في تخييب آمالنا، وفي عدم قدرته، للأسف، على تلبية كل رغباتنا وتطلعاتنا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: