عبدالرحمن اليوسفي.. لماذا لم يفتح صندوقه الأسود و كل خزائنه ؟

عبدالرحمن اليوسفي الإنسان قبل أن يكون سياسيا وحقوقيا، اكتوى بزمان الأحداث ومكانها، حلوها ومرها.

سياسي معارض ركب قطار الشرعية بعدما سار
البوح، وخصوصاً بوح السياسي، هو سلطة تتحكم فيها الذاكرة وقوة الواقع وإصرار التاريخ المحكي حسبما عاشته شخصية ذلك السياسي الذي يصبح مع الزمن خزانة أسرار.

عبدالرحمن اليوسفي الإنسان قبل أن يكون سياسيا وحقوقيا، اكتوى بزمان الأحداث ومكانها، حلوها ومرها. ركب قطار الشرعية بعدما سار. صحيح أنه ركب متأخراً، لكنه ركب في مرحلة انتقالية صعبة وغاية في الحساسية. بعد أن أراد الملك الراحل الحسن الثاني إشراك الرأي الآخر في إدارة شؤون البلاد.

واليوسفي، بحصافته، معارض عرف أن التغيير الذي يمكن أن تحدثه وفقاً لما تؤمن به، لا يكون إلا بدخول عالم السياسة من باب الشرعية، فمضى على هذا النهج، وتوثقت علاقته مع العرش المغربي. وبالمقابل فقد حفظ له ملكان لهما قدرهما التاريخي مكانته ودوره، سواء كرجل من رجال الدولة في الحكم، أو كحكيم من حكماء المغرب بعد خروجه منه، يستشار في الخطوب ويبتعث في المهمات الحساسة.

يعد اليوسفي المولود بطنجة في العام 1924 واحداً من زعماء حزب “الاستقلال”، حيث رضع حليب السياسة وهو في ربيعه التاسع عشر، وبعدما ضاق به الحزب، اختار إلى جانب رفاقه المهدي بن بركة والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق وعبدالرحيم بوعبيد تأسيس تنظيم يساري أطلقوا عليه اسم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” قبل أن يستقر الاسم على “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”.

اختار النضال ضد الاحتلال الفرنسي فأسس أول خلية بثانوية مولاي يوسف بالرباط حيث كان يدرس، وبعدما رصدته أجهزة الاحتلال، عمل متخفيا في الدار البيضاء ضمن صفوف المقاومة والنقابات العمالية ليقع عليه الاختيار لتنظيم المقاومة المسلحة منذ العام 1953 إلى غاية استقلال المغرب.

اليوسفي، بحصافته، معارض عرف أن التغيير الذي يمكن أن تحدثه وفقا لما تؤمن به، لا يكون إلا بدخول عالم السياسة من باب الشرعية، فمضى على هذا النهج. وبالمقابل فقد حفظ له ملكان لهما قدرهما التاريخي الكبير مكانته ودوره، سواء كرجل من رجال الدولة في الحكم، أو كحكيم من حكماء البلاد بعد خروجه منه
نبض الحياة يتجدد عند اليوسفي وتنشط ذاكرته وهو يتحدث لأول مرة في مذكراته عن والدته. إذ عندما كان اليوسفي في المنفى استقبل الملك الراحل الحسن الثاني والدته في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وقبل انصرافها سألها الملك الراحل إن كانت في حاجة إلى أي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية “بغيت وْلِيدي!”. فأجابها الملك “يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء، والوطن سيرحب به”.

كشف اليوسفي، في مذكراته ما عانته والدته بسببه قائلا “أبي رحمه الله توفي سنة 1937، في نفس السنة التي حصلت فيها على الشهادة الابتدائية، وبسببي عانت أمي الكثير، خاصة بسبب غيابي المتكرر الذي أبعدني عنها بشكل كبير”.

لا نضال حقيقيا دون سند روحي ومادي حقيقي وهذا ما تأتى لليوسفي متمثلا في والدته وزوجته هيلين، التي تعرّف عليها بالصدفة، في مدينة الدار البيضاء، في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، ودامت صداقتهما 21 سنة، وحال الاعتقال الأول والثاني لليوسفي، وقضية بن بركة، دون التعجيل بزواجه منها، على الرغم من تقدّمه لخطبتها.

انتقد اليوسفي التزوير الذي طال الانتخابات التشريعية في العام 1993 فغادر المغرب نحو مدينة كان الفرنسية، ليعود إلى بلده بعد استجابته لدعوة الملك الحسن الثاني الذي أرسل له مستشاره محمد عواد ومبعوثين آخرين يحثونه على العودة.

وبعد ثلاث سنوات دخل في جولة من المفاوضات مع القصر الملكي لتدشين مرحلة أخرى في العلاقات بين النظام والمعارضة، في ما بات يسمى في الأدبيات السياسية بالتناوب السياسي.

وحول تلك الفترة يقول اليوسفي إنه رد على مبعوث الملك الراحل طالبا منه أن يشكره على هذا التوجه السليم. ويضيف “أمّا في ما يخصني شخصيا فرجوته أن يبلغه أن وضعيتي الصحية لا تسمح لي، على الإطلاق، بتحمل مثل هذه المسؤولية؛ لكن حزبنا، كما جرت العادة، لن يتردد في تلبية أيّ دعوة فيها المصلحة العليا لبلادنا”. ويتابع اليوسفي “وبعد فترة، جاءني نفس المبعوث بجواب الملك الحسن الثاني: يقول لك جلالة الملك هو أيضا مريض، وهذا قدرنا أن نتقاسم معا تحت المرض عبء هذه المسؤولية”.

أطياف المشهد السياسي


عبدالرحمن اليوسفي يعرف في المغرب والعالم العربي بأنه ذاك الذي شهد انتقال العرش من ملك إلى ملك في صيف 1999، بعد عام على رئاسته حكومة مكونة من 41 وزيرا يتفرقون على ستة أحزاب بعد تكليفه من طرف الملك الراحل الحسن الثاني بتشكيلها
عبدالرحمن اليوسفي يعرف في المغرب والعالم العربي بأنه ذاك الذي شهد انتقال العرش من ملك إلى ملك في صيف 1999، بعد عام على رئاسته حكومة مكونة من 41 وزيرا يتفرقون على ستة أحزاب بعد تكليفه من طرف الملك الراحل الحسن الثاني بتشكيلها
جاء في كتاب “شهادات وتأملات” الصادر مؤخرا، للراحل عبدالرحيم بوعبيد، أنه في يوم ما من سنة 1959 قال الملك الحسن الثاني لعبدالرحيم بوعبيد رفيق اليوسفي “لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام. فمن يدري؟”. والحقيقة أن اليوسفي هو من ركب وسار حتى آخر محطة سياسية بالنسبة إليه، عندما اعتزل في العام 2002.

خيبات الأمل يمكنها أن تصنع منافسة بين الأمر الواقع والطموح في غد أكثر عدالة وتميزا، هكذا كان يفكر اليوسفي الذي تمرس في العمل السياسي والصحافة والنضال المسلح وكواليس المفاوضات مع الفرنسيين وبعدها مع كافة أطياف المشهد السياسي بعد الاستقلال.

كانت المرة الأولى التي يدلف فيها إلى القصر الملكي بالرباط، في مارس عام 1961 عندما تلقى سلفه على رأس الحزب عبدالرحيم بوعبيد، دعوة من القصر لمناقشة عرض اليساريين واحتمال مشاركتهم في الحكومة، وكان على بوعبيد أن يقنع اليوسفي ومحمد البصري ليكونا ضمن الوفد، ليتم بعدها استدعاء اليوسفي إلى القصر بعد ثلاثين سنة لحضور جلسة عمل بشأن مذكرة الإصلاحات السياسية والدستورية المعروفة باسم «مذكرة يونيو».

وحول معرفته بالعاهل المغربي الملك محمد السادس يقول اليوسفي، “تعرفت على صاحب الجلالة الملك مـحمد بن الحسن يوم فاتح مايو 1992، لما دعانا آنذاك الملك الراحل، لحضور أول اجتماع لأحزاب الكتلة الخاص بمناقشة عمل لجنة التحكيم للتحضير للانتخابات. وقدّمني صاحب الجلالة إلى ولي العهد وضيفه، وأذكر أنه قدمني لهما مازحا، كما قلت سابقا، بقوله: هذا أكبر مهربي السلاح. وحكى لهم كيف أنه وعلى الرغم من أنني كنت مريضا، إلا أنني كنت أحمل السلاح تحت لباسي في عهد المقاومة، من أجل عودة الملك الشرعي للبلاد”.

مرونة وواقعية
سيشهد اليوسفي انتقال العرش من ملك إلى ملك في صيف 1999، بعد عام على رئاسته حكومة مكونة من 41 وزيرا يتفرقون على ستة أحزاب بعد تكليفه من طرف الملك الحسن الثاني بتشكيلها.

مرونة وواقعية واستقلالية في الرأي مع تأمل عميق وسعة صدر ومراقبة حثيثة لاتجاه ريح موازين القوى داخليا وخارجيا، كلها عناصر ساهمت في طبخ قرار المشاركة في حكومة كان الكل يظنها بعيدة المنال لكن إرهاصاتها كانت بادية الملامح في بداية التسعينات من القرن الماضي لتكتمل فصول حكاية اليوسفي بين المعارضة والحكم.

كان يوما مشهودا في تاريخ الحياة السياسية بالمغرب، والكل يترقب ما بعد 14 مارس 1998، الذي استقبل فيه الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط حكومة التناوب التوافقي التي يقودها اليوسفي.

قبل ذلك اليوم كان اليوسفي على موعد مع الملك عندما عيّنه وزيرا أول، وأكد له قائلا “إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك وأعرف جيدا، منذ الاستقلال، أنك لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار؛ ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الحادي والعشرين”.

بتعدد علاقات اليوسفي في الزمان والمكان وتأثيره وتأثره بالأحداث والوقائع جاءت أحاديثه متنوعة غنية تكشف عن جوانب خفية من الحياة السياسية والاجتماعية من ذاكرة لا تزال مشتعلة ومنشغلة بمستقبل البلد، فقد باح وأطلق المكنون لكن من خلال تصرف بحكمة رجل الدولة وتبصره ورؤية السياسي المتطلع والمتضلع الذي يعرف متى يبدأ وفي أي نقطة يتوجب عليه الوقوف.

ففي 28 أكتوبر 2003 قدم اليوسفي استقالته من منصبه وأعلن بعدها اعتزاله العمل السياسي نهائيا، جاء ذلك بعد تصدر حزبه الاتحاد الاشتراكي في أول انتخابات تشريعية جرت في عهد الملك محمد السادس، سنة 2002، ليعترف في مذكراته بأن العاهل المغربي أبلغه قائلا “في العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفائك من هذه المسؤولية نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى”.

وبلباقته المعهودة ولغته الدبلوماسية الهادئة قال اليوسفي “شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وعبرت له أن الدستور الحالي يمنحه حق تعيين من يشاء وزيرا أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ وهو حزب الاتحاد”.

ملف المهدي بن بركة


لم تنقطع صلة اليوسفي بالعاهل المغربي بل اعترف الوزير الأول الأسبق أن الملك محمد السادس كلفه بمهمات خارجية مرتبطة بملف الصحراء، وكانت المرة الأخيرة التي طلب رأيه فيها لدى تشكيل الحكومة التي كان يقودها عبدالإله بن كيران أمين عام حزب العدالة والتنمية في سنة 2011.

كانت تحت يد اليوسفي كرجل دولة وسياسي مادة أرشيفية مهمة ومعلومات دقيقة عن شخصيات وأحداث وأماكن عاشها وعايش معظم الفاعلين فيها، ولن يتم الكشف عنها والبوح بها كلها وإن على شكل ومضة لاعتبارات متعددة منها الذاتي والموضوعي.

بحكم القرب وتواتر المعطيات المؤكدة حول اختطاف المهدي بن بركة رفيق درب اليوسفي قال هذا الأخير إن بوعبيد أعلن من خلال جريدة “لوفيغارو” الفرنسية أن “من كانوا وراء هذا الاختفاء أرادوا منع حل ديمقراطي يشرف عليه الملك الحسن الثاني”.

ويضيف اليوسفي أنه “حين تم اختطاف المهدي بن بركة بباريس، ثارت ردود فعل عدة. وظل الحادث يشغل الرأي العام الوطني والدولي، حيث لا يزال مصير هذا القائد المغربي مجهولا إلى الآن”.

واسترسل اليوسفي في سرد الوقائع بعد اختفاء بن بركة في العام 1965 بباريس، قائلا إن الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، اتهم في ندوة صحافية مباشرة وزير الداخلية المغربي، آنذاك الجنرال محمد أوفقير، بالضلوع في العملية.

اللغز يبقى عصيا على الفهم بالنسبة إلى اليوسفي، الذي يؤكد أن “الدولة الفرنسية لا تزال متمسكة بسر الدفاع الوطني كحجة لعدم رفع السرية عن الوثائق التي تهم هذا الملف، بالرغم من أنها قامت مرتين بالكشف عن بعضها. واتضح في الواقع أنها كشفت فقط عن وثائق غير ذات أهمية، ولا يزال المنع يطال الوثائق الأساسية التي من شأنها الكشف عن المستور”.

ويؤكد اليوسفي أيضا مشاركة أطراف دولية في ارتكاب هذه الجريمة، وأشار إلى تورط عناصر “الموساد” في قضية المهدي بن بركة، موردا أنه بعد مرور سنة على عملية الاختطاف، وبالضبط في ديسمبر 1966، نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية تحقيقا، أنجزه الصحافيان شيمال مور ومكسيم غيلان، أكدا فيه تورط جهاز الاستخبارات ذاته في اختطاف بن بركة، إلى جانب أطراف أخرى.

حظي اليوسفي في يوليو 2016 بتكريم من طرف الملك محمد السادس، حينما أطلق اسم “شارع عبدالرحمن اليوسفي” على شارع السلام سابقا وسط مدينة طنجة. ووضع العاهل المغربي قبلة على رأسه عندما كان يتلقى العلاج في أحد مستشفيات الرباط في أكتوبر 2016، وهي إشارات على تقدير الرجل الذي بصم تاريخ المغرب الحديث وبقي محتفظا بنفس الاحترام إلى الآن، واعترافا بخدمته للصالح العام.

لكن هل استطاع اليوسفي البوح في “أحاديث في ما جرى” بكل ما كان حقا؟ أم فقط ما كان مناسبا له وللكثيرين الذين يعيشون اللحظة الآنية؟ لقد كان اليوسفي غير صدامي مقارنة مع الفقيه البصري والمهدي بن بركة إذ كان يغلب الواقعية على الطوباوية، مرنا في تناوله للقضايا الخلافية ومتمسكا في الآن ذاته بمبادئ حقوق الإنسان وبميزان العدالة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: