شعوذة ليلة القدر… “ميزاجور” السنة
يوم 26 من رمضان، يوم استثنائي بالنسبة إلى بعض المغاربة، خلاله يمارسون طقوس السحر والشعوذة وتقدم “الهدايا” و”الذبيحة” من أجل الجن ليحقق أحلامهم ومتمنياتهم. نساء ورجال يقصدون، لهذه المناسبة، “العطارة” و”الشوافات” والفقها”، رافعين شعار “سحور عام تدبيرو ليلة”. في هذه الورقة نتقرب أكثر من أجواء هذا اليوم الاستثنائي لدى البعض، ومن طقوسه الخاصة، بعيدا عن قيام الليل وصلاة التراويح وتلاوة القرآن.
”غار لالة عيشة”… منبع “تيبيخة”
الجرف الصخري بسيدي موسى بسلا لممارسة طقوس السحر
جرف صخري بالشريط الساحلي بسلا، ليس مثل أي جرف، يبدو طبيعيا وقد يغري البعض بالتقاط الصور قربه، لكن الواقع يقول غير ذلك، ويؤكد أنه منبع الشعوذة وأعمال السحر “تيبيخة”، وأنه من أكثر الأماكن المقدسة بالنسبة إلى المشعوذين والذي يقصدونه خصيصا ليلة 26 من رمضان، لممارسة طقوسهم.
فقرب ضريح سيدي موسى بسلا، والذي مازال يقاوم من أجل البقاء، يوجد “غار لالة عيشة” جرف صخري ترمى فيه الملابس الداخلية والدجاج والصور الشخصية بعد تلطيخها، وأيضا قطط خيطت أفواهها دون شفقة أو رحمة، بالإضافة إلى الشموع بألوانها و”الحجابات” وغيرها. هناك أيضا يجلس البعض لترتطم بأجسادهم مياه البحر سبع مرات للتخلص من “التابعة” وطرد “النحس”، وتقصده الراغبات بالزواج و”تسكيم السعد”.
إنه جرف لا يشبه أي جرف، لأن هناك تمارس طقوس الشعوذة في وضح النهار، وتحرسه نساء ورجال، قد يضطرون إلى استخدام القوة والعنف لمنع بعض المتطفلين من الاقتراب من المكان، وفي الوقت ذاته يقدمون خدماتهم لبعض الزبناء الأوفياء ويتكلفون بتسهيل المهام وتنفيذها إذا تطلب الأمر ذلك.
فقبل أيام قليلة من يوم 26 من رمضان، بدأت الاستعدادات بـ”غار لالة عيشة” لاستقبال المشعوذين وزبنائهم لممارسة طقوسهم الخاصة، فمن بين هؤلاء، ثلاث نساء قصدن المكان في الصباح الباكر، بعدما حرصن على تغطية وجوههن جيدا، حتى لا يتعرف عليهن أحد، وركن سيارتهن في مكان بعيد. نساء اقتربن من الغار وهن يراقبن من حولهن، وبخطوات ثابتة حاولن الوصول إلى المكان المناسب لرمي الأشياء التي جاؤوا بها ولتنفيذ تعليمات “الشوافة”.
ولأن بعض الأعين كانت تراقبهن من بعيد، قررنا مغادرة المكان والدخول إلى ضريح سيدي موسى، في انتظار الفرصة المناسبة لتحقيق الهدف. قبل هؤلاء النساء قصد المكان أشخاص آخرون، لديهم الهدف ذاته، بعضهم نجح في المهمة ونفذوا التعليمات، سيما أنهم لن يجدوا أحسن من مناسبة 26 من رمضان، فيما البعض الآخر عادوا أدراجهم، حاملين معهم مستلزماتهم.
”طقوس غريبة تمارس في هذا المكان، ومازالت مستمرة ولن يقوى أحد على إيقافها”، يقول أحد سكان سيدي موسى قبل أن يضيف أن “غار لالة عيشة” من أشهر الأماكن في المنطقة، يقصده الكثير من الأشخاص طيلة السنة، ولكن بشكل خاص في بعض المناسبات منها “عاشوراء” و”ليلة 27 من رمضان”.
وأوضح الشاب أنه في “الغار” ترمى بعض الأشياء الغريبة، منها الملابس الداخلية للرجال والنساء، وأيضا الدجاج بعد ذبحه “في بعض الأحيان، يكون المكان مليئا بأشياء مقززة، لكن لا نقوى على التدخل، سيما أن بعض الشباب من أبناء المنطقة، يستغلون الوضع، ويوفرون الحماية لبعض المشعوذين وزبنائهم”، حسب تعبيره.
انتعاش محلات “مستلزمات الطقوس”
إقبال على أعشاب وبخور وجلود حيوانات من أجل أعمال السحر
تعرف محلات العطارة الخاصة ببيع “مستلزمات الشعوذة” بسلا إقبالا كبيرا، من قبل الراغبين في طرد النحس وسوء الحظ وتحقيق مطالب مختلفة، مثل الزواج أو العمل أو الحمل وغيرها.
وفي الوقت الذي يستقبل فيه كثيرون ليلة القدر بالاستعداد الروحي للتقرب أكثر من الله والتوجه إليه بالدعاء لتحقيق آمالهم، فإن فئة أخرى تعتبر أنها مناسبة من أجل القيام بأعمال السحر والشعوذة لطرد النحس وجلب الحظ والتمكن من تجاوز أزمات معينة.
وعرف أحد محلات العطارة بسلا توافد عدد من الزبونات اللواتي كن يرغبن في شراء أنواع من البخور التي يتم استعمالها في ليلة القدر، اعتقادا منهن أنه وسيلة لتحقيق أهداف مختلفة منها تحسين العلاقة مع الزوج أو الحمل أو الزواج للفتيات اللواتي تقدمن في السن أو الحصول على عمل.
”واش عندك شي بخور مزيان” سألت إحدى الزبونات صاحب محل العطارة، الذي قال إنه من الأنواع الأكثر إقبالا ليس فقط من زبوناته، بل حتى زبائنه.
”هذه الطقوس لا تقتصر فقط على النساء كما هو شائع، فحتى الرجال منهم فئة تقتني البخور، إذ منهم من يرغب في التخلص من سحر عشيقته أو زوجته”، يقول صاحب المحل.
ويختلف سعر البخور، حسب صاحب المحل، باختلاف مكوناته، إذ كلما تضمن مواد “ذات فعالية أكثر” ارتفع سعره، مضيفا “الجميع يبحث عن بخور يكون “دقة ببطلة”، لهذا فالسعر يكون مرتفعا، كما أنه أمر لا يهم بالنسبة إلى الزبائن بقدر ما يهمهم التخلص من سحر قديم أو تجاوز أزمة معينة أو تحقيق أمر ما”.
”لابد من بخور في ليلة القدر، فهي عادة توارثناها عن الأجداد ولا يمكن التخلص منها”، تقول زبيدة، مشيرة إلى أن أغلب ربات الأسر يقمن بذلك للتخلص من السحر وطرد النحس.
وإلى جانب البخور، الذي يعد الأكثر إقبالا تعرض محلات العطارة الخاصة ببيع “مستلزمات الشعوذة” جلود حيوانات منها القنافذ والثعابين التي يسود اعتقاد كبير في صفوف مقتنيها أنها فعالة لإبطال السحر.
هشاشة نفسية وراء الإقبال عليها
لقطيب قال إنها تمارس نتيجة إيمان قوي بمعتقدات خاطئة
أكد منير لقطيب، مختص في علم النفس الاجتماعي، ل”الصباح”، أن اللجوء إلى ممارسة الشعوذة في ليلة القدر والإقبال الكبير عليها يعكسان الهشاشة النفسية والإيمان القوي بمجموعة من المعتقدات الخاطئة.
ويحاول ممارسو الشعوذة في ليلة القدر أن يضفوا نوعا من المصداقية على ما يقومون به، من خلال تأكيدهم أنها ليلة يتم فيها فك السلاسل والأصفاد عن الشياطين، وبالتالي فهي قوية في معناها الروحاني ومناسبة للتحرر وقضاء عدة أمور، يقول لقطيب، مضيفا أن هذا من بين الأسباب التي تزيد من الإقبال على ظاهرة الشعوذة، كما يكون الجانب النفسي محركا أساسيا لها انطلاقا من معتقدات مرفوضة.
ومهما اختلفت أسباب ودوافع ممارسي الشعوذة، حسب لقطيب، ومنها السعي إلى جلب المحبة وطرد النحس وتحقيق أهداف معينة مثل الزواج أو الحمل أو الحصول على عمل، إلا أنها تؤكد عدم القدرة على تحمل الظرفية الصعبة التي تمر منها كل حالة، وعدم النجاح في المرور من مرحلة عدم التقبل لمشكل معين إلى مرحلة الرضى بالأمر الواقع والتعايش معه والعمل على إيجاد حلول أخرى بعيدا عن المعتقدات الخاطئة.
ومن بين ما يزيد الإقبال على الشعوذة في ليلة القدر، حسب لقطيب، أن ممارستها منذ القدم ارتبطت بفترات زمنية معينة أو مواسم يرى فيها الأشخاص أنه سيتم خلالها تحقيق أهدافهم انطلاقا من ممارسة أمور خاطئة واقتناع قوي بمعتقد من نوع خاص لعبت مجموعة من الظروف دورا كبيرا في ترسيخه.
واعتبر لقطيب أن ممارسة الشعوذة في ليلة القدر تأتي في إطار التشبث بسلوكات منحرفة، كما أن طبيعتها مستمدة من ثقافة الأفراد ومتنقلة عبر الأجيال.
”إن الشعوذة تكون بدافع محاولة إعطاء تفسير لمجموعة من الظواهر لم تثبت علميا، وبالتالي ساهم ذلك في جعل كثيرين يفكرون أن عامل السحر يساعد على تحقيق مطالبهم وبلوغ أهدافهم” يقول لقطيب.
وكلما كانت هناك قوة نفسية استطاع الأشخاص تجاوز التعاطي مع الشعوذة، حسب لقطيب، مضيفا أن غيابها يؤدي إلى اللجوء للتقليد والمحاكاة، كما أن الوسط والتربية يغذيانها ويزيدان من نسبة انتشارها.
ثلاثة أسئلة: جزء من اعتقاد ديني
لماذا يتشبث بعض المغاربة بإحياء طقوس شعوذة ليلة 27 من رمضان؟
إن تناول ظاهرة الشعوذة والسحر، يحيل على رصد أنماط وطبيعة التدين في المجتمع، لأن هناك تداخلا بين الديني والسحري، نظرا لحضور بقايا وثنية داخل المعتقدات والممارسات المرتبطة بتدين الأفراد، وبالتالي فإن ممارسة الشعوذة والسحر هي جزء من الاعتقاد الديني عند فئات من المجتمع التي تقوم بإحياء طقوسها وتربطها بمناسبات دينية متعددة، أهمها ليلة القدر، باعتبارها ليلة مقدسة يستغلها الدجالون لتسويق ممارساتهم، وترسيخ قدراتهم الخارقة في التأثير على العلاقات بين الأفراد، ومعرفة المستقبل، وزرع المحبة والتقارب، أو الكراهية والتباعد، وإحضار الغائب، والزيادة في الرزق.
تلعب التنشئة دورا أساسيا في ترسيخ هذه المعتقدات، ومن خلال التربية الأسرية التي تلعب فيها الأم دورا أساسيا، يترسخ في أذهان الأطفال أهمية بعض الطقوس في ليلة القدر، التي تكون ليلة منفتحة على تحقيق رغبات غيبية لا تتحقق في الأيام العادية، لذلك نجد فئات متنوعة من الرجال والنساء وحتى الأطفال يحيون هذه الليلة بزيارة الأضرحة، والعرافين والدجالين.
هل تسامح المجتمع مع هذه الفئة وتقبلها يقويان وجودها واستمرارها؟
إن ممارسة الشعوذة ظاهرة موجودة في جل المجتمعات عبر التاريخ. وهناك ممارسات انتشرت مع الديانة اليهودية، وارتبطت بالمناسبات الدينية وطقوس العبور لاعتقاد اليهود أنها ممارسات تدفع الضرر وتجلب النفع.
ومن خلال الدراسات التاريخية فإن تفشي ظاهرة الشعوذة ارتبط في المجتمع المغربي ابتداء من القرن 13 الميلادي عندما انتشرت الأضرحة، ما أحدث تغيرا في طبيعة تدين المجتمع. وبدأ نوع من التباعد بين التدين العالم، والتدين الشعبي، زد على ذلك بعض المتغيرات الأساسية وهي نسبة الجهل التي تدفع إلى الاعتقاد في الخرافات نظريا، وممارسة السحر تطبيقيا.
كما أن الاعتقاد بالسحر وممارسة الخرافة لا يقتصر على فئة اجتماعية، معينة بل اعتقاد مشترك بين فئات اجتماعية مختلفة على مستوى الجنس والسن والمستوى السوسيو- اقتصادي.
فالمعتقدات تتغير والطقوس تستمر بسبب وظيفتها الاجتماعية، لأنها إبداع جماعي يتم اللجوء إليها للحفاظ على النسق والتماسك الاجتماعيين، عندما يضفي الإنسان قدسية على ممارساته التي تعضد وجوده الاجتماعي والثقافي.
كيف يمكن القطع مع هذه الممارسات؟
إذا كان الاسلام أكثر الأديان السماوية توحيدا، وأقلها تجسيدا، فان الأولياء والصلحاء هم أهل الوحدانية والورع والتقوى، وأما الدجالون فهم الشعبويون الممارسون لكل ما هو مدنس. ورغم ذلك انتشرت ظاهرة تقديس هؤلاء الأحياء منهم والأموات، وأضفى الناس عليهم قدسية وقدرات خارقة في قضاء حوائجهم.
ونستنتج من ذلك أن الممارسات ترتبط أساسا بطبيعة تدين الفرد التي هي السبب والدافع في جعله يؤمن بنوعين من الشعائر، الأولى الشعائر التي تمارس في المسجد بدون وساطة، وهي عبارة عن مقدس غير مجسد، والثاني وهو ما يسمى مقدسا مجسدا وهي تلك المعتقدات والطقوس التي ترتبط بممارسة طقوس الشعوذة وربطها بالمناسبات الدينية، وبعبادة الأولياء وزيارة الأضرحة.
وللقطع مع هذه الممارسات، يمكن التركيز على عملية التنشئة الاجتماعية التي تشمل الأسرة والمدرسة ووسائل الاعلام، وذلك لتحصين المجتمع من هذه الظواهر، وعدم تكريسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مؤثرا في توجيه القناعات والمعتقدات، إذا علمنا أنها أصبحت وسائل تستغل لنشر الخرافة والشعوذة.
فالتنشئة الاجتماعية بكل مؤسساتها تتحمل مسؤولية تكوين وتربية أجيال على التدين الصحيح، والعلم المتنور، وجعل هذه الأجيال تكتسب مناعة من كل تصورات وأفكار خرافية.