أزمة ماء الشرب في الجزائر.. مصائب قوم عند قوم فوائد

أفرزت أزمة التزويد بماء الشرب في بعض مناطق البلاد سلوكيات اجتماعية متناقضة، ففيما يبادر محسنون خواص إلى حفر آبار بإمكانياتهم الخاصة ووضعها تحت خدمة المستهلكين، يسعى البعض إلى انتهاز الفرصة من أجل الربح على حساب المعاناة اليومية للمواطنين، فهناك من الصناعيين من رفع من وتيرة إنتاج وبيع صهاريج تخزين الماء، لأنها صارت مطلوبة بكثرة، وهناك من انخرط في نشاط بيع المياه عبر الخزانات والصهاريج، فقد صارت تجارة رائجة لدى الكثير.

المتجول في مدن وبلدات داخلية بالجزائر يعاين بشكل لافت ازدهار تجارة استثنائية كانت في وقت قريب تمارس على نطاق ضيق، وهي بيع الماء، فصارت الجرارات والمركبات الثقيلة والخفيفة تزاحم السيارات العادية في الطرقات في مهمة توصيل طالبي المياه في مختلف الأحياء والشوارع.

وأمام رواج هذه التجارة، حيث تنتصب الخزانات في واجهات محال بيع الخردوات والمواد الحديدية، تسللت البيروقراطية والواسطات لدى المزودين بالمياه، فلا تخلو أي مركبة أو جرار من رقم هاتف أو حتى بريد إلكتروني للتواصل، لكن من الصعب الحصول على رد، لأن صاحبه مشغول للغاية وليس في حوزته الوقت للرد على المتصل.

الجزائر استثمرت مؤخرا مبلغ مليار دولار لإنشاء خمس محطات لتحلية مياه البحر، لتنضاف بذلك إلى 19 محطة أخرى

وسجلت أسعار المياه في تلك المناطق ارتفاعا لافتا، زاد من أعباء الإنفاق اليومي للمواطنين، حيث باتت العائلة الواحدة مرغمة على رصد مبلغ شهري لتغطية حاجيات المياه، والأمر لا يتعلق بالعائلات فقط، بل يتعداه إلى أصحاب الخدمات كالمقاهي والمطاعم.

قال سعيد. ف (مالك مقهى) إن التكلفة زادت بنحو 70 دولارا شهريا للتزود بالمياه، بينما تبقى الأسعار ثابتة ولا يمكن المجازفة برفعها.

لكن في المقابل يؤدي محسنون وأصحاب مشروعات خيرية دورا كبيرا في التخفيف من حدة أزمة المياه، عبر حفر آبار ووضعها في خدمة المستهلكين، وتحول مشروع في ضاحية الحميز (شرقي العاصمة) إلى نموذج يحتذى به في هذا المجال، لما تم ربطه بالشبكة العمومية للتوزيع وتم القضاء على الأزمة نهائيا.

وامتدت ذروة الجفاف في الجزائر إلى الخريف، بسبب تأخر هطول الأمطار مقارنة بالسنوات الماضي، فإلى غاية الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الجاري، لم تسجل البلاد أي أمطار، الأمر الذي ساهم في نضوب مائدة المياه الباطنية في معظم ربوع البلاد، لتدخل بذلك مناطق بعينها في حالة من النكبة غير المعلنة.

وباتت أخبار توزيع المياه عبر الشبكات العادية، بنفس أهمية وجاذبية أخبار البورصات المالية في تلك المناطق، حيث تتم متابعتها وتداولها على نطاق واسع، الأمر الذي يعكس حجم الأزمة التي يعيشها هؤلاء، خاصة في ظل المعلومات التي تتحدث عن انهيار تام للخدمة، بسبب النضوب التام لمصادر التموين وغياب الحلول الحكومية، وهو ما يدفع المستهلكين إلى البحث عن بدائل أخرى.

في بلدة الأخضرية، شرقي العاصمة بنحو 60 كلم، اضطرت شركة المياه الحكومية إلى الاستعانة بإمكانياتها اللوجستية من مختلف الوحدات المنتشرة في المدن والمحافظات، من أجل ملء خزانات التوزيع، لكن الحل يبقى غير ناجع والأفق غامض بشأن توفير هذه المادة الحيوية، وليس بعيدا أن يتم إعلان الانهيار في ظل الحديث عن حذف البرمجة، فالشركة فقدت فرص ضمان تموين المستهلكين بالمياه.

وغير بعيد عنها، في بلدة “عمر”، امتلك مسؤولو البلدية الجرأة وأعلنوا عن نهاية التزويد العمومي بالمياه، في انتظار هطول المطر للتخفيف تدريجيا من حدة الأزمة، وما عدا ذلك فالسكان مطالبون بالتكيف معها، والبحث عن بدائل جديدة، وسط زخم الأطفال والنسوة يركضن بدلائهن بين بيوتهن ومصادر التموين الخاصة.

الكل في حالة غضب واستياء من أداء المؤسسات الحكومية التي عجزت عن توفير مادة حيوية لسكانها، لكن البعض منهم بدأ يقتنع تدريجيا بالقوة القاهرة التي هزمت مؤسسات الدولة والمواطنين معا، ورمت بهم إلى أحضان تجار جدد باتوا يتسابقون على ابتزاز جيوب المواطنين، سواء بالنسبة لورشات تصنيع الخزانات والصهاريج البلاستيكية والحديدية، أو أولئك الذين يقومون بالتزويد بالماء من المصادر الخاصة.

ناشطون وفاعلون في المجتمع المدني، تحدثوا عن سوء تخطيط واستشراف لأزمة الجفاف رغم الجهود التي تبذلها الدولة في توفير التزويد بالمادة، واستدلوا على ذلك بعدم الاستعداد للذروة خلال الأشهر الماضية، فضلا عن عدم استغلال الإمكانيات المتوفرة ومد شبكات التوزيع، ولذلك وجد المسؤولون أنفسهم أمام ترديد جواب العجر، “انتظروا سقوط الأمطار”.

الرئيس عبدالمجيد تبون أعلن في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة، أن بلاده ستتوصل مع نهاية العام القادم إلى تحلية مليار و300 مليون متر مكعب من مياه البحر يوميا

ولم يعد لدى المسؤول إلا النصح بانتظار سقوط الأمطار، ولم يبق للحكومة إلا الدعوة إلى أداء صلاة الاستسقاء في المساجد والمصليات طلبا للغيث، فيما دخل الأئمة في حملة تعبئة وتوعية للاستغلال العقلاني للمياه، لكن خطابهم لا يتعدى حدود تلك المساجد.

واستثمرت الجزائر في السنوات الأخيرة مبلغ مليار دولار، لإنشاء خمس محطات لتحلية مياه البحر، لتنضاف بذلك إلى 19 محطة أخرى، منها 11 قيد الخدمة والأخرى في طور الإنجاز، على أمل الوصول إلى سقف 60 في المئة من الحاجيات المحلية التي يتم توفيرها من محطات التحلية في غضون العام 2030، غير أن تعقيدات الأزمة المتشابكة سرعت من وتيرة الضغوط، وكشفت عن أزمات تزويد خاصة في المناطق الداخلية البعيدة عن الساحل البحري.

وكان الرئيس عبدالمجيد تبون قد أعلن في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة، أن بلاده “ستتوصل مع نهاية العام القادم إلى تحلية مليار و300 مليون متر مكعب من مياه البحر يوميا”، وهو معطى افتقد للدقة وهو قريب من التوقيت السنوي وليس اليومي.

وعاد الرئيس تبون، خلال زيارته لمحافظة بومرداس لتدشين محطة لتحلية مياه البحر، إلى التذكير بدور “الثورة المضادة” في “تثبيط عزيمة الجزائر الجديدة، من خلال استهداف بعض المشروعات التنموية وعرقلة عمل الحكومة، كما هو الشأن للتخريب المتكرر لمحطة الكهرباء الممونة لمحطة التحلية، وتبذير المياه لتسريع ظاهرة الجفاف منذ العام 2021”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: