عيد مغربي لترسيخ المُكَوِّن الأمازيغي في الهوية المغربية

البراق

“شعبي العزيز: أريد هنا أن أضع النقاط على الحروف. فأنا خديمك المخلص، لست أبدا ضد اللهجات، بل أنا إنسان شغوف بالتاريخ وبفلسفة التاريخ. الشيء الذي يجعلني أحلل مقومات تاريخنا. والتاريخ إن لم يكن مصنوعا من عبقريات متعددة وأصالات متنوعة وعادات يتباهى بعضها مع بعض، لن يكون أبدا تاريخا بل سيصبح سلسلة من الأحداث لا يصنعها المرء بل يرغم عليها ويتحملها”.

الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب يوم 20 أغسطس 1994، بهذه الكلمات عبَّر القائد المعلّم المغفور له الملك الحسن الثاني في سياق تاريخي ومجتمعي خاص عن رؤية المملكة المغربية لإعادة الاعتبار للأمازيغية كمكون مركزي وأساسي للهوية المغربية وأحد أهم أعمدة الحضارة المغربية العريقة، وبعد أقل من سبع سنوات بتاريخ 17 أكتوبر 2001 ومن قلب جبال الأطلس في بلدة أجدير الواقعة على طريق السلاطين العابقة بزخم التاريخ المجيد للدولة العلوية الشريفة والشاهدة على ملاحم الإنسان المغربي في مواجهة الاستعمار ومحاولاته لطمس الهوية، ألقى العاهل المغربي الملك محمد السادس الخطاب التأسيسي لعهد جديد في الملف الأمازيغي، وأرسى بشجاعة ومسؤولية قواعد ميثاق ثقافي ولغوي متماسك بين الدولة ونخبها، فتح آفاقا جديدة للأمازيغية ليربطها بالتنمية، حيث انتقلت القضية الأمازيغية من مجرد مطالب ثقافية تعيش على الهامش السياسي والمجتمعي إلى مفهوم شمولي للغة وثقافة تشكل الأساس اللغوي والثقافي إلى جانب العربية في تشكيل الهوية المغربية الجامعة، وأحد أعمدة المشروع المجتمعي الحداثي الذي يقوده الملك محمد السادس من أجل توفير العيش الكريم للإنسان المغربي حيث أصدر الظهير رقم 299-01-11 بتاريخ 17 أكتوبر 2001 معطيا الأمر المولوي السامي بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمؤسسة دستورية مهمتها إبداء الرأي حول التدابير التي من شأنها الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها.

◙ اليوم أمام المغرب مسار تاريخي واضح مرتبط بتحصين الهوية المغربية وجعلها في خدمة الأهداف السامية التي تخدم مصالح الشعب المغربي أولا، والأمن القومي المغربي

ويشارك المعهد بتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسسات المعنية في تنفيذ السياسات التي يعتمدها الملك محمد السادس، من أجل إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية، وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي، ليساهم في تحقيق العديد من المنجزات لصالح الأمازيغية مثل رسم حرف “تيفيناغ” وإطلاق تدريس الأمازيغية، وإنشاء قناة تلفزيونية أمازيغية، وإقرارها هوية ولغة رسميتين في دستور الأول من يوليو 2011.

ورغم كل هذه المنجزات لم يتوقف الفاعل المؤسساتي عن إتمام الورش التي ابتدأها بتنسيق وتوافق مع جميع المتدخلين وأصحاب المصلحة بالشأن الأمازيغي، حيث تم إصدار القانون التنظيمي رقم 16-26 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وآليات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، ونص القانون في المادة رقم 2 منه على “المحافظة على هذه اللغة، بصفتها رصيدا وطنيا، والعمل على تهيئتها وتأهيلها وتطويرها وتنمية استعمالها، مع مراعاة إدماج مختلف التعبيرات الأمازيغية المحلية بشكل متوازن ودون إقصاء لأي مكون من مكوناتها؛ وحماية الموروث الثقافي والحضاري الأمازيغي بمختلف تجلياته ومظاهره، والعمل على النهوض به وتثمينه، من خلال رصد المكتسبات الوطنية المحققة في هذا المجال وتطويرها، بما يضمن الانصهار مع باقي مكونات الهوية الوطنية الموحدة والمتعددة الروافد، والانفتاح على الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”.

كل هذه المجهودات وهذا العمل النوعي الذي تقوم به الدولة المغربية من أجل وضع رؤية إستراتيجية لترصيد الثقافة الأمازيغية باعتماد هندسة لغوية وثقافية جديدة ترتكز على التعددية اللغوية والثقافية وتثمينها، وتعتمد على الحضارة المغربية الغنية ومتعددة المكونات والروافد في إطار سياق وطني يجسده التفاف الشعب المغربي حول المؤسسة الملكية والعرش العلوي الضامن الوحيد والأوحد لاستقرار ووحدة الأمة المغربية، الذي أكد عليه الخطاب الملكي ليوم 17 أكتوبر 2001، قائلا: “ظل المغرب، عَبْر العصور، متميزاً بالتحام سكانه، مَهمَا كانت أصولهم ولهجاتهم، متشبثين بمقدساتهم ووحدة وطنهم، ومُقاومتهم لكل غزو أجنبي أو محاولة للتفرقة”.

وفي هذا السياق توج بلاغ الديوان الملكي ليوم 3 مايو 2023 الذي أقر فيه الملك محمد السادس رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، حيث أصدر توجيهاته إلى رئيس الحكومة قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار.

◙ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يشارك بتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسسات المعنية في تنفيذ السياسات التي يعتمدها الملك محمد السادس، من أجل إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية

وعلى هذا الأساس يمكن قراءة البلاغ الملكي في إطار سياق مترابط وطني ودولي، يعمل فيه المغرب على حماية أمنه اللغوي والثقافي ونسيجه الاجتماعي في ظل تحديات وطنية ودولية متفاعلة، فعلى المستوى الوطني هذا القرار يأتي في إطار توجهات إستراتيجية كبرى للدولة المغربية تهدف إلى تثمين الموروث الحضاري والثقافي وعادات وتقاليد الأمة المغربية الضاربة جذورها في التاريخ الإنساني، وربطه بالحاضر والمستقبل في إطار مفهوم “تمغربيت”، وسياق دولي مرتبط بمحيط إقليمي مضطرب سياسيا وأيديولوجيا في غياب رؤية إقليمية واضحة ترتكز على السلام والأمن، في ظل تداعيات مدمرة لجائحة كورونا وما رافقها من تحديات نتيجة الحرب الأوكرانية – الروسية والمخاطر المرتبطة بانعكاساتها على سياسة المحاور الدولية، مما يضع العديد من الملفات المؤثرة على الأمن والسلام فوق الطاولة الإقليمية، ويستوجب حالة تعبئة شاملة لمواجهة التحديات الجيوسياسية المطروحة في الجوار، والعمل على تحقيق الطفرة الاقتصادية والاجتماعية، كما يحددها النموذج التنموي الجديد وفق مقاربة مغربية تعتمد البحث على حلول مغربية لإشكالات مغربية.

لذا فقد وجه الملك محمد السادس مبكرا كل الفاعلين في الملف الأمازيغي بنص صريح وواضح في خطاب أجدير التأسيسي في أكتوبر 2001 وبرؤية استشرافية دقيقة لأهمية الأمن اللغوي بعدم تسييس المجهودات التي تبذل للنهوض بالأمازيغية والإساءة إليها في مهاترات سياسية ضيقة تهدر الزمن التنموي، حيث أكد أن “الأمازيغية، التي تمتد جذورها في أعماق تاريخ الشعب المغربي، هي ملك لكل المغاربة بدون استثناء، وأنه لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية، كيفما كانت طبيعتها”.

التدبير الملكي الحكيم للهندسة اللغوية، الواعي بشروط التدبير الرصين للغات ضمن الفسيفساء اللغوية وغنى العناصر الثقافية واللغوية والحضارية التي يزخر بها الوطن قد حدد فهما جديدا للأمن اللغوي من خلال دوره الهام في تعزيز السيادة الوطنية، حيث تعتبر اللغة والثقافة اللغوية جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية للمملكة المغربية. وتحقيق الأمن اللغوي يساعد قطعا على حماية اللغة والثقافة اللغوية للدولة وتعزيز السيادة الوطنية.

وهذا لا يتم إلا بتعزيز الوعي اللغوي والثقافي للمجتمع وتعزيز الانتماء الوطني، ما يساعد على تعزيز السيادة الوطنية وتوحيد الشعب خلف مؤسساته وحمايته من كل المخططات التي تروم زرع بذور التفرقة والتمييز؛ أيضا يساعد الأمن اللغوي على تعزيز اللغة الوطنية وحمايتها من الاندثار والتغييرات الخارجية، وهذا يعزز السيادة الوطنية ويحفظ هوية الدولة والشعب.

فتدبير الهندسة اللغوية المرتكزة على الحكامة والتنوع بالمغرب يتطلب الإسراع في إتمام الورش المتعلقة بإصلاح منظومة التربية والتعليم بوضع مناهج تعليمية تراعي الاحترام الكامل للتنوع اللغوي والثقافي الذي يميز المجتمع، والعمل على تعزيز هذا التنوع وحمايته وتعزيز اللغات الوطنية واستخدامها في المجتمع، مع الحرص على عدم إهمال اللغات الأخرى في المجتمع، وتطوير السياسات الحكومية التي تحمي اللغات الوطنية مع الحرص على تحقيق التوازن بين هذه اللغات واللغات الأخرى، ثم تشجيع البحث العلمي حول اللغات الوطنية ودورها في المجتمع، ودعم تطوير الأدوات والتقنيات التي تساعد في تعزيز استخدام هذه اللغات.

◙ العاهل المغربي الملك محمد السادس ألقى الخطاب التأسيسي لعهد جديد في الملف الأمازيغي، وأرسى بشجاعة ومسؤولية قواعد ميثاق ثقافي ولغوي متماسك بين الدولة ونخبها

اليوم أمام المغرب مسار تاريخي واضح مرتبط بتحصين الهوية المغربية وجعلها في خدمة الأهداف السامية التي تخدم مصالح الشعب المغربي أولا، والأمن القومي المغربي، وبالتالي فوجود مؤسسة دستورية نص عليها دستور2011 هي “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية” التي تعتبر إطارا مرجعيا وقوة اقتراحية في مجالي اللغات والثقافة، ستعمل على بلورة التوجهات الكبرى للسياسات العمومية المتعلقة باللغة والثقافة، والسهر على انسجامها وتكاملها وصيانة مكوناتها، للنهوض بالثقافة المغربية التي تشكل مصدر غنى وتفضي أشغالها إلى تطوير سياسات لغوية منسجمة بالنسبة إلى اللغة العربية والأمازيغية واللهجة الحسانية ومختلف التعبيرات الثقافية وكذا اللغات الأجنبية لتجويد مستوى تعلمها.

تفعيل الدور المؤسساتي لهذه الهيئة أصبح ضرورة إستراتيجية وطنية لدوره المركزي في تعزيز الهوية المغربية عن طريق الحفاظ على تنوع مكوناتها والسهر على انصهارها، من خلال تيسير الولوج إلى الحقوق الثقافية وتطوير الاقتصاد الثقافي وتحقيق الانسجام والتوافق بين جميع المتدخلين وأصحاب المصلحة في المجال الثقافي واللغوي.

ترسيخ المكون الأمازيغي كعنصر مركزي في الهوية المغربية هو جزء لا يتجزأ من الرؤية الملكية المتبصرة لمجتمع متعدد ومتضامن، في إطار ديمقراطي يضمن تكافؤ الفرص وحرية المبادرة لجميع رعايا المملكة المغربية. رؤية تحترم تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا في ظل العرش الذي يشكل القيادة التاريخية الوحيدة والأبدية لنضال الشعب المغربي من أجل حفظ السيادة والحرية والعيش الكريم. فقبل تسعين سنة انتفض المغاربة بكل مكوناتهم ضد الظهير البربري خلف مؤسسة إمارة المؤمنين ورفض هذا الظهير باعتباره مشروعا تقسيميا يرسخ لثقافة التمييز داخل المجتمع المغربي المتماسك الموحد.

اليوم لا زال الأحفاد على نهج الأجداد سائرين في مسار تاريخي واختياري حضاري يمتح من روح “تمغربيت” الجامعة لتقاليدنا وعاداتنا ولغاتنا ولهجاتنا، في ظل التفاف راسخ حول مؤسسة إمارة المؤمنين التي تجسدها ملكية مواطنة ناظمة للعلاقات بين مختلف العناصر التفاعلية داخل النسيج المجتمعي المغربي، في إطار الاختيار الديمقراطي والثوابت الوطنية، وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس في خطاب أجدير 17 أكتوبر 2001 قائلا: “إننا نريد، في المقام الأول، التعبير عن إقرارنا جميعاً بكل مقومات تاريخنا الجماعي، وهويتنا الثقافية الوطنية، التي تشكلت من روافد متعددة، صهرت تاريخنا ونسجت هويتنا، في ارتباط وثيق بوحدة أمتنا، الملتحمة بثوابتها المقدسة، المتمثلة في دينها الإسلامي الحنيف السمح، وفي الذود عن حوزة الوطن ووحدته، وفي الولاء للعرش، والالتفاف حول الجالس عليه، والتعلق بالملكية الدستورية الديمقراطية الاجتماعية”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: