علة النظام الجزائري.. ضعف النباهة المكتسبة

عاد سفير الجزائر إلى باريس، واستقبله الكاتب العام للخارجية الفرنسية، كأي موظف عادي. عاد كأن لم يكن هناك سبب لاستدعائه غضبا، للتشاور في الجزائر، قبل أسابيع بسبب ما اعتبرته القيادة الجزائرية إهانة فرنسية للجزائر، بعد العملية الفرنسية الاستخباراتية لتهريب مواطنة جزائرية – فرنسية كانت مطلوبة للأمن الجزائري. تم تهريبها من الجزائر، مرورا بتونس وإلى باريس. يومها استشاط الرئيس تبون غضبا، كما عبّر عن الغضب الشديد كل من يتموقع في النظام الجزائري، تحت مستوى الرئيس أو فوقه. كأن زلزالا “أمسك بتلابيب النظام”. أيامها بدا أن “جذبة” النظام قد تذهب به إلى أقصى الصرامة في التعامل مع الدولة الفرنسية.

كان رجال النظام الجزائري يتوعدون فرنسا برد قوي، انتصارا لكرامة أجهزة الدولة الجزائرية، التي تعرّت في تلك الواقعة وانكشف ضعفها. وكان ما كان من تجاهل فرنسا، بكل آليات دولتها وأجهزتها، تلك “الجذبة” الجزائرية… على ما يبدو تتفيها لها. ولعلها قدرت بأن كل ذلك الصراخ لن يذهب أبعد من مدى وقعه الصوتي.

لم يصبر جنرالات نظام الجزائر طويلا على الصمت الفرنسي، الدال على استصغار مكابرته. مرت أسابيع، وضجر السفير الجزائري من طول أيام “التشاور” معه في الجزائر العاصمة، وتعبت القيادة الجزائرية من انتظار مخرج لها من الطريق المسدود الذي فتحته في علاقاتها مع باريس. أطلقت إعلامها للحديث عن “ضرورة ترميم العلاقات الجزائرية – الفرنسية”، كما كتب أحدهم في جريدة “الشروق”. رشح، من المقال، قلق النظام من استفحال أزمة الإهانة الفرنسية، إلى قطيعة سياسية، تؤدي إلى المزيد من التدهور في علاقات، هي أصلا هشة… هي حقل ألغام وأوتارها جد مشدودة. المقال كان جسا للنبض إلى سبيل عودة السفير الجزائري إلى باريس، بالحقيبة نفسها التي تأبطها مغادرا إلى الجزائر “للتشاور”. حقيبة فارغة من “الكرامة” وفارغة من التبصر السياسي. وهو ما تحقق، بعد أن أخبر –هاتفيا – السيد تبون السيد ماكرون “بقرب عودة سفير الجزائر”، لفائدة الحفاظ على العلاقات الجزائرية – الفرنسية ولإنقاذ زيارة الرئيس الجزائري إلى باريس، في مايو المقبل، إنقاذها من الغرق في فيضان أزمة العلاقات بين البلدين. ما حدث هو تكرار لواقعة أكتوبر 2021، حين هاجم الرئيس الفرنسي الدولة الجزائرية باعتبارها “نظاما سياسيا – عسكريا يدير دولة، منذ استقلالها، وهي تستفيد من ريع الذاكرة”. غضب تبون وجماعته، وأعلنها حربا كلامية ضد ماكرون. واتكل على الله، وهو يعلن استدعاء سفيره في باريس للتشاور، مطالبا باعتذار فرنسي علني وواضح. بعد ثلاثة أشهر، عاد السفير الجزائري إلى فرنسا، في رحلة ملفوفة بصمت جنائزي، بعد طول انتظار اعتذار فرنسي لم يصل… بل تنازل عنه المطالب به وتجاهله المطلوب منه.

◙ الحقد لدى قيادة الجزائر، يخفض فيها مستويات النباهة، وهي علة الشفاء منها ممكن، لكنه شاق طويل وأهم أدويته إرادة قوية في التخلص من سموم الحقد

يبدو أن هناك من “نبّه” النظام الجزائري إلى ضرورة الإسراع بنسيان العنتريات التي تضحك الجميع ولا تخيف أحدا، وبتنشيط قنوات التواصل مع باريس لمعالجة التسرع والانفعال في تجميدها والتهديد بخنقها. وهي ليست المرة الأولى التي “يتهوّر” فيها العقل السياسي للنظام في الجزائر، ولن تكون الأخيرة. بل إن معضلة النظام، البنيوية، هي “عقله”… محركه السياسي. والعرب تقول “من لم يكن أكبره عقله، أهلكه أكبر ما فيه”. وأكبر الموجهات السياسية للنظام الجزائري هو حقده على المغرب… و”الحقد هو أسوأ موجه للسياسة”، كما قال، ذات سجال، القائد الروسي فلاديمير لينين.

محور اهتمام مركز القرار الجزائري هو المغرب، والانشغال بحقده، وهو في ذلك يضيع طاقاته في ما لا يفيده، ويجد نفسه خائر النباهة حيال ما يستدعي سداد الرأي وصواب القرار، في علاقات الجزائر الخارجية، كما في أوضاعها الداخلية.

السيد تبون المكلف بمهام الرئيس في الجزائر، هو أوضح من يعبر عن قصور “العقل” السياسي للنظام الجزائري أو عجزه أو ضعفه. كان حريا به تجنب الحديث علنا في الشأن السياسي، لكنه يصر على التلذذ بشكليات وبعض فعاليات الرئاسة، من نوع الأحاديث الصحفية. وهكذا، نرى في تصريحاته الأخيرة لقناة “الجزيرة”، أنه قدّم، مرة أخرى، عينات لمختبرات علم السياسة من “التفكير” الذي لا يجدر برئيس دولة أن ينطق به. تفكير من نوع أن الأزمة في تونس هي “نتاج مؤامرة خارجية… خاصة بعد استقبال إبراهيم غالي – رئيس بوليساريو – في مطار تونس”. وهو بذلك يوحي بأن المتدخل الخارجي في اضطرابات الوضع التونسي هو المغرب. إنه مسكون بالمغرب، ويراه وراء كل أزمات الجزائر، وهي كثيرة. وزاد عليها أنه يراه حتى في الأزمة التونسية. قال ما لم يقله ولا يفكر فيه أيّ فاعل في الوضع التونسي من الرئيس قيس سعيد إلى أكبر مؤيديه وإلى أصغر معارضيه، وهو أيضا ما لم يقله أيّ متابع ومحلّل للوضع التونسي من الغرب أو من الشرق. وحده اشتمّ أو تلمّس أو عاين “أياد” مغربية في تلك الأزمة. وأصلا لا أحد من تونس ومن خارجها يرى أزمتها من فعل أو توجيه خارجي. الأسباب الداخلية للأزمة التونسية وتدخلات الأطراف التونسية فيها، التلقائية والذاتية، واضحة للجميع داخل تونس وخارجها. ومن تداعيات ذلك الاتهام أنه ينطوي على طعن في مصداقية القوى السياسية والنقابية التونسية. إنه غمز في أنها تحرك من الخارج، من المغرب أو من غيره. والأنكى أن بعض تلك القوى منحازة للجزائر ضد المغرب، وعن باطل… وبجملة واحدة خسرها “الرئيس” في حشد المعادين للمغرب. رئيس بهذا “الذكاء”، كيف يمكن الاطمئنان لجدارته في تدبير بلاده، بدقة التشخيص لأوضاعها وصواب القرارات الموجهة لها. أما حين وصف علاقات بلاده مع المغرب بأنها “وصلت إلى نقطة اللارجوع”، كما قال، فإن ذلك الجزم والقطع لا يمكن أن يكون سياسيا. إنه كلام حاقد وحسب، ولا يجرؤ عليه إلا فاقد للحس السياسي. أما السياسي العادي فيعرف بأن أزمات العلاقات بين الدول، مهما اشتدت أو حتى امتدت إلى حروب، فإنها تبقي دائما على احتمالات تنفيسها أو حلها. والعلاقات المغربية – الجزائرية يوفر لها المغرب، أو يدخر لها، نداء العاهل المغربي الملك محمد السادس، المتكرر، للحوار وللتفاهم، عامل مرونة للخروج من أزمتها الحالية وقطائعها، إذا ما صحا “ذهن” القيادة الجزائرية على مصلحة الجزائر في وضع مغاربي يعمه السلام والتعاون. ولهذا السبب لن يقول عاقل في النظام الجزائري، إذا وُجد، بأن العلاقات الجزائرية – المغربية في وضع “اللارجوع”، خاصة، وفي ظرفية عربية – إسلامية تشهد مصالحات، متتالية ومفاجئة، في توترات عربية – إسلامية بينية، عبرت درجات قصوى من الحدة ومن العنف. دول عربية وإسلامية تسلحت بالواقعية السياسية لتقتحم حقل المصالحة، وهي واعية بهشاشة الألغام فيها وبمكامنها. بينما النظام الجزائري، وعلى لسان المكلف بالرئاسة فيه، يجتر عنادا علاه صدأ عقود مضت، ويعيش على مكابرات هو ليس حملا لها. حقد النظام الجزائري ضد المغرب يمنعه من ملاحظة التحولات الكبرى في السياسات الدولية، وامتداداتها في الأوضاع العربية، والرامية في بعض وقائعها إلى الخروج من منطقة الزوابع.

قيادة الجزائر لا يوجهها منطق الدولة. الدولة عند هيغل هي “العقل الخالص”. ولدى الجنرال شنقريحة، وزملاؤه، الدولة هي “خالص الحقد” ضد المغرب، كما يليق بعصابة تدبر ابتزازها لخيرات الجزائر، وهي تتوارى خلف فزاعة قوة المغرب “المهددة للجزائر”. ذلك مكر من صميم “ثقافة العصابات”. أما الشعب الجزائري فيحتاج إلى قيادة تمتلك النباهة الضرورية لالتقاط التحولات الداخلية والخارجية، التي تعتري أو تحيط بالجزائر من أجل تأمين مصالحها. والحال أن الحقد لدى قيادة الجزائر، يخفض فيها مستويات النباهة، وهي علة الشفاء منها ممكن، لكنه شاق طويل وأهم أدويته إرادة قوية في التخلص من سموم الحقد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: