تسييس الجزائر لبطولة أمم أفريقيا يعكس أزمة نظامها

تحولت بطولة أمم أفريقيا للاعبين المحليين الجارية حاليا إلى منصة جزائرية لتمرير رسائل سياسية، في ما يعكس وفق نظر المتابعين أزمة نظام يحرص على خلق عدوّ خارجي لإلهاء الداخل عن المشكلات التي تعاني منها البلاد.

كشف استغلال الجزائر لبطولة أمم أفريقيا للاعبين المحليين لأغراض سياسية بما يشمل الترويج لدعاية جبهة بوليساريو الانفصالية، عن هوس استثنائي من جانب السلطة الجزائرية لإثارة التوترات مع المغرب.

وتحول افتتاح البطولة إلى منصة لتمرير رسائل سياسية، في تحد وصف بـ”الصارخ” للقوانين والأعراف الرياضية، الأمر الذي دفع الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) إلى التحرك وفتح تحقيق في الغرض.

وفي حفل افتتاح الحدث الرياضي الذي أقيم بالعاصمة الجزائرية، ألقى شيف زولي فوليل حفيد نيلسون مانديلا في ملعب يحمل اسم جده خطابا تحدث فيه عن نزاع الصحراء، قائلا “دعونا لا ننسى آخر مستعمرة في أفريقيا، الصحراء (…) لنقاتل من أجل تحريرها”.

وتشكل قضية الصحراء أحد الأسباب الرئيسية في التوتر بين المغرب والجزائر التي تدعم جبهة بوليساريو، وقد بلغ هذا التوتر أوجه حينما أقدمت الجزائر في العام 2021 على قطع جميع العلاقات مع الرباط، وإغلاق مجالها الجوي مع المملكة، الأمر الذي حال دون مشاركة منتخب المغرب في البطولة الحالية، على الرغم من كونه حامل لقبي النسختين الأخيرتين عامي 2018 على أرضه و2020 في الكاميرون.

وأفاد بيان للاتحاد الأفريقي لكرة القدم الأحد بأنه “سيحقق وينظر في التصريحات السياسية والأحداث التي جرت خلال حفل افتتاح بطولة أمم أفريقيا للمحليين 2022 بالجزائر”.

وأكد “كاف” في بيانه أن تلك التصريحات السياسية التي أطلقت “لا تخص ‘كاف’ ولا تعكس وجهات نظره أو آرائه كمنظمة محايدة سياسيا”.

وكانت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم قالت في بيان السبت إنها “تندد بالممارسات الدنيئة والمناورات السخيفة التي صاحبت افتتاح بطولة أفريقيا للاعبين المحليين (…) بعد إلقاء كلمة خارج السياق لتمرير مغالطات سياسية لا تمت بأي صلة للشأن الكروي”.

واعتبر الاتحاد المغربي ذلك “خرقا سافرا للقوانين المنظمة للتظاهرات الكروية التي تقام تحت لواء الاتحاد الأفريقي لكرة القدم”، موضحا أنه راسل الاتحاد “لتحمل كامل مسؤولياته أمام هذه الخروقات السافرة”.

ويرى مراقبون أن رفض الجزائر منح ترخيص لتنقل المنتخب المغربي، وتوظيف حفل افتتاح الحدث الرياضي للتصويب على المغرب من خلال ملف الصحراء، يعكس في واقع الأمر أزمة نظام.

ويشير المراقبون إلى أن قرار منع انتقال المنتخب المغربي كان مرجحا. ولكن ما لم يكن متوقعا أن يتم استغلال الحدث الرياضي لأجل الترويج لأعمال حربية تتناقض مع روح الرياضة.

ويقول المراقبون إن إثارة الجزائر للتوتر مع المغرب أصبحت هدفا في حد ذاتها، ليس لأن هناك ما يبرر المزيد منه، بل لأنه تحول إلى حاجة داخلية تتعلق بإستراتيجية “صنع عدو خارجي” للتغطية على مشاكل الداخل التي تعرف المؤسسة العسكرية الحاكمة أنها قد لا تستطيع مواجهتها من دون تشتيت انتباه الجزائريين وإلهائهم بمخاطر وهمية وقضايا “نضالية” مزيفة.

وأحد أهم المنعطفات المنتظرة هي الانتخابات الرئاسية المرجح إجراؤها في ديسمبر العام المقبل. وسواء ترشح الرئيس عبدالمجيد تبون من جديد، أم جرى البحث عن بديل له، فإن الاستقرار الحالي الذي تشهده الجزائر يبقى هشا، مما يجعل إثارة توترات خارجية خيارا ملائما.

الاتحاد الأفريقي يتبرأ مما حصل في الافتتاح ويؤكد أن التصريحات التي تم تمريرها لا تعكس رأيه كمنظمة محايدة سياسيا

ويشير متابعون للشأن المغاربي إلى أن التوترات أمر يقلق فرنسا أيضا، لأن الاستقرار الذي لم يتحقق في الجزائر يمكن أن يترك انعكاسات سلبية إضافية على العلاقات بين البلدين.

ومثلما يحاول المغرب احتواء خيارات التصعيد من خلال التعامل بهدوء مع الاستهداف الجزائري، تحاول فرنسا أن تدفع بمسار تطبيع العلاقات لأنها تعرف مدى حاجة المؤسسة العسكرية الحاكمة في الجزائر إلى إثارة نزاعات خارجية لكي تستخدمها كشماعة تلقي عليها أعباء أزمتها الداخلية.

وقدم السفير الفرنسي السابق في الجزائر كزافييه دريانكور تحذيرا مسبقا لبلاده من إمكانية تدهور الأوضاع في الجزائر وتأثيراتها على الداخل الفرنسي، إلى درجة دفعته إلى القول إن انهيار النظام الجزائري يمكن أن يؤدي إلى سقوط الجمهورية الخامسة في فرنسا.

وقال دريانكور في مقال نشر في صحيفة “لوفيغارو” الأسبوع الماضي إن “جميع المراقبين الموضوعيين يلاحظون أنه منذ عام 2020، ربما بعد أسابيع قليلة من الأمل، أظهر النظام الجزائري وجهه الحقيقي، فهو نظام عسكري، مدرّب على أساليب الاتحاد السوفييتي السابق، بواجهة مدنية فاسدة، مثل سابقه الذي أسقطه الحراك، مهووس بالحفاظ على امتيازاته وريعها، وغير مبال بمحنة الشعب الجزائري”.

ولم يتبدد الحراك الشعبي الذي استمر لأشهر طويلة بين 2018 و2019، إذ ظلت دوافعه قائمة. ووفر تفشي وباء كورونا فرصة للنظام لالتقاط الأنفاس، من أجل إعادة تدوير الزوايا بحيث تبقى المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي، مع إيجاد واجهة مدنية توحي بأن التغيير قد حصل وانتهى أمره وأنجز ما عليه.

ويرى كثيرون أن التغيير الذي وعد به الرئيس تبون مجرد وهم، لاسيما بعد أن بدأت المؤسسة الحاكمة بالاستعداد للانتخابات المقبلة بتكميم الأفواه واعتقال الصحافيين المستقلين ومنع أنشطة الحراك والتضييق المسبق على نشطائه. ولقد تم في هذا السياق إغلاق صحيفة “ليبرتي” و”راديو أم”، وموقع “ألجيري بارت” بتهمة “تلقي أموال من الخارج لنشر أخبار كاذبة من أجل زعزعة استقرار البلاد”.

رفض الجزائر منح ترخيص لتنقل المنتخب المغربي، وتوظيف حفل افتتاح الحدث الرياضي للتصويب على المغرب من خلال ملف الصحراء، يعكس في واقع الأمر أزمة نظام

ويشير هؤلاء إلى أن البلاد التي لا تبدو مستقرة إلا بتكميم الأفواه، تكشف عن مكامن زعزعة غير دفينة. ولهذا السبب فإن صنع توترات وأزمات خارجية يبدو حلا مثاليا، وذلك ريثما تتمكن المجموعة العسكرية، وهي الحاكم الفعلي في البلاد، من إعادة ترتيب أوضاع السلطة.

ودفعت معرفة فرنسا بالمخاطر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تقديم العديد من المؤشرات عن رغبته بتخفيف التوترات مع الجزائر، أملا بتقليص استخدام بضاعة الكراهية التي تم استغلالها لنحو سبعة عقود من الزمن، في إطار ما يدعى “ملفات الذاكرة”.

وقال الدبلوماسي الفرنسي إن “الجزائر الجديدة، بحسب الصيغة الشائعة هناك، تنهار أمام أعيننا وتجر معها فرنسا بوتيرة أكثر دراماتيكية من تلك التي وقعت عام 1958″، في إشارة إلى سقوط الجمهورية الرابعة تحت تأثير ثورة الاستقلال الجزائرية.

وبينما تخشى فرنسا من موجة هجرة إذا ما اندلعت احتجاجات جديدة تطالب بالتغيير، فإن الخطر يكمن في أن كراهية فرنسا سلعة سهلة الاستخدام، وتجعل منها “عدوا” جاهزا ومفيدا باستمرار.

وكان افتعال التوترات مع المغرب بدوره هدفا “مفيدا”. فعلى الرغم من أن المغرب هو الذي يتعرض للتهديد في أمنه ووحدة أراضيه من جانب تنظيم مسلح يتلقى دعما عسكريا مباشرا من الجزائر، فإن السلطات الجزائرية ظلت تنتهز الفرص للتصعيد لأجل إبقاء “العدو” عدوا، حتى ولو كان هو الذي يتعرض للعدوان.

وقد أدركت الدبلوماسية المغربية هذه اللعبة مبكرا. وبينما بقيت الرباط تركز على الدعوة إلى المصالحة ورأب الصدع، فإنها تعمدت إبقاء التعامل مع الهجمات المسلحة التي تشنها بوليساريو عند حدودها الدنيا. وذلك بما يكفل أمن المملكة من ناحية، وتفريغ شحنات التوتر المصطنعة من ناحية أخرى.

ويقول المراقبون إن أحدا لا يتوقع أن تفعل السلطات الجزائرية شيئا آخر. فطالما أن لديها أزمات داخلية لا تجد سبيلا لحلها، فإن بقاء “العدو” عدوا هو الخيار الوحيد. وطالما أنها تشعر بالخوف من آت مجهول، فإن “عدوا” معلوما هو بمثابة “حل” سوف لا تعرف ماذا تفعل من دونه. فإذا ما تجاهل “العدو” محاولات استفزازه، فمن الطبيعي أن تتحول الاستفزازات إلى هوس تجري ممارسته بمناسبة ومن دون مناسبة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: