أزمة التعمير في الجزائر.. من المخطئ؟

بليدي

دفعت الاحتجاجات التي عاشتها ضاحية “الخربة” بمحافظة ميلة في شرق الجزائر بواقع أزمة جوهرية إلى السطح، لأن المسألة لم تكن فقط مجرد غضب شعبي في ضاحية معزولة لأسباب معينة، بل أزمة تمتد جذورها إلى عقود ماضية، وهي عينة مصغرة لواقع شامل في البلاد، تتداخل فيه الأسباب بين المواطن وبين المسؤول، والنتيجة هي أزمة بنية دون نهاية.

ضاحية الخربة في محافظة ميلة، هي واحدة من الضواحي الجزائرية؛ لا هي حزام عشوائي ولا هي حي حضري، لكن ظهورها كان خطأ، واستمر الخطأ إلى أن أصبح غير قابل للعلاج، واستعصى على السلطة حله، وفوق ذلك هو بؤرة من بؤر التوتر الاجتماعي القابل للاشتعال في أية لحظة.

ولا يختلف إثنان في أن الفساد في الجزائر هو ظاهرة عمودية وأفقية، تورط فيها مسؤولون كبار في الدولة وساهم فيها مواطنون بسطاء، فثقافة الريع وذهنية “البايلك” (القطاع العمومي) شكلت تسابقا غير معلن على نهب كل ما هو ملك عمومي، والنتيجة هي عشرات من البؤر والأزمات في ضاحية الخربة وفي غيرها.

◙ فصول الحكاية بين السكان وبين السلطات العمومية طويلة، والكل صاحب حق، والكل مذنب، والدولة هي التي تدفع ثمن تقصير الحكومات المتعاقبة في إدارة وضبط وحماية الملك العمومي

لقد حاولت السلطة التكتم على الأحداث، وتعاملت بآلة أمنية مع المحتجين، فأوقفت وسجنت البعض من أبناء الضاحية، بمن فيهم “آدمن” صاحب صفحة ناشطة على فيسبوك، يؤدي فيها دور المواطن الصحافي، بتصوير وبث الاحتجاجات والمظاهرات التي نظمها السكان ضد السلطات المحلية.

وفي ضاحية برج الكيفان بالعاصمة، يجري منذ أيام هدم عمارات مشيدة بدعوى عدم حيازة ملاكها للتراخيص اللازمة، في إطار حملة شاملة تشنها الحكومة ضد منتهكي العقار العمومي، وهي العملية المرشحة لأن تشمل كامل أنحاء البلاد وفق نص قانوني تصل عقوبته إلى عشرين عاما سجنا نافذا ضد كل من اعتدى على أملاك الدولة.

وهنا يكمن مربط الفرس، لأن استفاقة السلطة جاءت متأخرة كثيرا، فقد عبثت ذهنية الريع بكل شيء في البلاد، وكما استولى سكان الخربة على الأرض التي تحولت إلى أكبر حي في مدينة ميلة بعد سنوات، جرى ويجري السطو على الأملاك العمومية، وتعقدت الوضعيات المحلية إلى أن صارت عصية على الحل.

ولا يزال الجزائريون المخضرمون أو المسنون يحتفظون بطيف صورة لسهول ساحلية كانت خلال حقبة الاستعمار وفي السنوات الأولى للاستقلال تمثل سلة غذاء أوروبا والجزائر معا، والآن باتت خليطا من الأسمنت والمصانع والورشات، إلى درجة أنه تم الربط شبه التام بين العاصمة والمحافظات المجاورة شرقا وغربا، بسبب امتداد التعمير والبناء.

وستستفيق الأجيال القادمة على ما ارتكبه التعمير العشوائي من جرم في حق المقدرات الزراعية والطبيعية معا، وعلى التخطيط السيء للآباء والأجداد في تشييد المدن، وكيف تحالفت المصالح الضيقة للأفراد مع مواطن النفوذ داخل السلطة والإدارة في السطو على الملك العمومي والاعتداء على حق الأجيال القادمة في الغذاء والهواء.

في الجزائر تتردد مفردات الاقتصاد الوطني والزراعة الوطنية والمصالح الوطنية وحتى الفريق الوطني، لكن لا وجود للشعور الوطني الحق الذي يلزم الفرد والمسؤول بمحض إرادته بعدم المساس بملك الغير وملك الدولة، وكما استولى كبار المسؤولين على القصور والفيلات والعقارات في العاصمة والمدن الكبرى، استولى البسطاء على عقارات ومزارع في الحواشي والوديان والأراضي المعزولة، ليتشكل بذلك حلف النهب والسطو.

◙ ضاحية الخربة في محافظة ميلة، هي واحدة من الضواحي الجزائرية؛ لا هي حزام عشوائي ولا هي حي حضري، لكن ظهورها كان خطأ

المحتجون في ضاحية الخربة ذكروا بأنهم فوجئوا بالسلطات المحلية تحشد إمكانياتها المادية واللوجستية والأمنية وتشرع في هدم الحي على رؤوس ساكنيه فجرا، ولذلك تعالى الصراخ والعويل والاشتباكات. بينما تؤكد السلطات العمومية أنها بذلت كل المساعي لإقناع السكان وترحيلهم إلى مناطق سكنية أخرى، لأن الحي مهدد بالانهيار منذ زلزال 2020.

فصول الحكاية بين السكان وبين السلطات العمومية طويلة، والكل صاحب حق، والكل مذنب، والدولة هي التي تدفع ثمن تقصير الحكومات المتعاقبة في إدارة وضبط وحماية الملك العمومي. لذلك تشكل أحداث الخربة عينة مصغرة لأزمة معقدة تخفي وراءها ورقة هامة من أوراق السلم الاجتماعي في البلاد. ولعل تراكم ممارسات الريع و”المال السائب”، وغياب ثقافة الحوار والإقناع، وتغول الإدارة وجر الأمن لحل الأزمات الاجتماعية، والتواطؤ المشبوه بين الإدارة والفساد، هي التي ستجعل قضية معزولة في مدينة داخلية عصية على الحل وترغم أصحاب القرار على الصمت في نهاية المطاف.

وإذ يبقى للسلطة الحق والحجة في إدارة الشأن العام، فإن الحجة نفسها تبقى في حاجة إلى حجة مقنعة، لأنها مطالبة بأن تظهر في ثوب الحامي والمدير للمصالح والحقوق والواجبات، وليس مجرد آلة للقمع والظلم، فقد كان بإمكانها أن تحظر تماما إقامة حي الخربة ما دامت الأرض غير صالحة للبناء، وتجنيب الجميع مثل هذا المأزق. كان بإمكانها منع الملاك من تشييد عمارات وأبراج منذ الوهلة الأولى، وليس أن تهدمها وهي على وشك التسليم لسكانها.

إدارة الشأن العام وفرض الحقوق والواجبات وحماية الأملاك، تكون باحترام القانون بالدرجة الأولى، وبإرساء ثقافة مواطنة وطنية، تبدأ من القدوة المثالية في هرم السلطة إلى أبسط مواطن في حي الخربة أو برج الكيفان، وليس بتنظيم حملات يدفع فيها الثمن من يدفع، وينجو منها من ينجو، لتعود الأوضاع بعد ذلك إلى حيث بدأت.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: