المغرب وإسبانيا وثقل الأحكام المسبقة

مجدوبي

اعتاد السياسيون في الرباط ومدريد، التأكيد على ضرورة العمل المشترك لجعل شعبي مضيق جبل طارق، الإسباني والمغربي، يتجاوزان الأحكام المسبقة التي تعوق تطور هذه العلاقات نحو الأفضل. وما يحدث هو مساهمة هؤلاء السياسيين في تأزيم الأوضاع أكثر، من خلال العجز عن معالجة المشاكل التي تنفجر بين الحين والآخر، ما يزيد من هذه المشاكل، لاسيما بعد تحول الرأي العام إلى فاعل رئيسي بسبب شبكات التواصل الاجتماعي.
وكان المغرب وإسبانيا قد وقعا سنة 1992 على اتفاقية التعاون وحسن الجوار، التي تنص على ترجيح الحكمة والحوار في معالجة القضايا الشائكة، ثم تعميق التعاون، حتى يتسنى للبلدين ترك مآسي الماضي وراءهما. وقد ترك التاريخ المشترك جروحا عميقة، إذ أن أغلب حروب المغرب خاضها مع الجار الإسباني، والأمر نفسه بالنسبة لإسبانيا. وطيلة قرون، كانت رؤية شعبي مضيق جبل طارق تتم وفق المنظار الديني المحض، الإسلام والمسيحية، وتدخل بطريقة أو أخرى ضمن الرؤية المقدسة المضادة القائمة على الدين.
وكان الرحالة الإسباني دومنغو باديا، قد ذكر في كتابه «رحلات إلى المغرب» أوائل القرن التاسع عشر، الهوة السحيقة بين أفكار وعادات شعبي مضيق جبل طارق، وكأنهما يعيشان على بعد آلاف الأميال، رغم أن هذا المضيق لا يتجاوز 14 ميلا بحريا. وتزخر الإنتاجات الأدبية والسياسية في البلدين، خاصة في إسبانيا بأفكار ساهمت في تبرير الحروب. ومن ضمن أشهر النظريات الجيوسياسية في تاريخ إسبانيا، وصايا إيزابيلا الكاثوليكية، التي أوصت الحكام بضرورة تفتيت وحدة «العدو الديني» القابع وراء مضيق جبل طارق. وقام المفكر ورئيس الحكومة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانوفاس ديل كاستيو، بتطوير أفكار إيزابيلا الكاثوليكية، عندما أكد في كتابه «معطيات حول تاريخ المغرب» الصادر سنة 1860، على أنه «لن تهدأ إسبانيا وتضمن أمنها حتى تجعل حدودها في جبال الأطلس» وهو كتاب لعب دورا كبيرا في تبرير الحروب ضد المغرب واستعماره، ومازال جزء من اليمين القومي الإسباني بشقيه المحافظ والمتطرف، وحتى تيار كبير وسط الدولة العميقة، بمن فيهم اليساريون، يعتبرون كانوفاس ديل كاستيو مرجعا مفيدا في تسطير المصالح الجيوسياسية الإسبانية.

العجز عن معالجة المشاكل التي تنفجر بين البلدين يزيدها، لاسيما بعد تحول الرأي العام إلى فاعل رئيسي بسبب شبكات التواصل الاجتماعي

عموما، راهنت الرباط ومدريد على إضعاف الأحكام المسبقة وتجاوزها منذ بداية القرن 21. وحدث العكس، فقد وقعت ثلاث هزات كبرى، من نوعية الهزات التي تترك أثرا في نفسية جيل ثم تنتقل إلى جيل آخر. والمفارقة اللافتة في هذا الشأن هو مسؤولية سلطات البلدين عن هذه الهزات، بسبب غياب الحوار، وليس مسؤولية الأحكام المسبقة. وهكذا وخلال هذه الأزمة، نجد وزيرة الدفاع في حكومة مدريد مارغريتا روبلس «تحذّر المغرب من اللعب مع إسبانيا» ونجد سفيرة المغرب في مدريد كريمة بنعيش، تعلن غياب الثقة في إسبانيا، وتهدد بعقوبات.. والهزات السياسية الثلاث المشار إليها هي كالتالي:
*في المقام الأول، انفجار نزاع جزيرة ثورة، أو جزيرة ليلى صيف 2002، وهو النزاع حول تلك الصخرة التي لا تتعدى مساحتها ملعبي كرة القدم، وتقع على بعد مئة متر من الساحل المغربي في مضيق جبل طارق. وكاد البلدان يدخلان في حرب مسلحة، لولا تغليب الحذر، ثم الوساطة الأمريكية الممثلة في دور وزير الخارجية وقتها كولن باول. وكشفت هذه الأزمة كيف يمكن أن تسبب شرارة بسيطة في تهديد مستقبل العلاقات، بل الحرب بينهما.
*في المقام الثاني، زيارة ملك إسبانيا خوان كارلوس إلى مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين سنة 2007، وكانت أول زيارة يقوم بها ملك إلى المدينتين بعد استقلال المغرب، وخرق بذلك عرفا قائما بين البلدين، بعدم زيارة مسؤولين إسبان كبار للمدينتين. وأكد هذا الحادث كيف يتفاقم غياب الحوار بين البلدين حول مستقبل المدينتين، إذ سيبقى هذا المشكل بمثابة سيف ديموقليس أمام تطور العلاقات الثنائية، وسيبقى هذا الملف يلعب دور العائق الرئيسي.
*في المقام الثالث، انفجار أزمة الصحراء خلال الوقت الراهن مايو 2021، حيث تصر إسبانيا على تأكيد مساعي الأمم المتحدة وإعطاء الكلمة للصحراويين، وعدم دعم الحكم الذاتي. في حين يرى المغرب في تصرف إسبانيا بمعارضة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء عملا عدائيا، ينهل من أحقاد الماضي، التي تهدف إلى تمزيق وحدة البلاد وعرقلة تطوره الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أي تنهل من أفكار كانوفاس ديل كاستيو.
وتترك الأزمات الثلاث تأثيرا قويا على مستقبل العلاقات بين البلدين، وأساسا على الرأي العام أو شعبي البلدين. وإذا كان الأخير، وهو إلى حد ما، سندا لكل قرار سياسي، ففي حالة البلدين أصبح سندا للأزمات ووقود استمرارها. فهذه الأزمة ساهمت في تعميق الأحكام المسبقة وإحيائها، ويكشف آخر استطلاع للرأي في إسبانيا أنجزته مؤسسة «ديم» ونشرته مجلة «20 مينوتوس» منتصف الأسبوع الماضي عدم ثقة 90% من الإسبان في المغرب، واعتباره جارا غير موثوق فيه. ولا توجد استطلاعات رأي في المغرب حول الإسبان، ولكن اعتمادا على ردود فعل المغاربة في شبكات التواصل الاجتماعي، والكتابات الصحافية لإعلاميين ومفكرين مغاربة، كل استطلاع للرأي سيكشف عن نسبة كبيرة من المغاربة لا تثق في الجارة الشمالية إسبانيا. ولعل الأسوأ في هذه العلاقات هو غياب تيارات، أو شريحة وسط النخبة العامة للبلدين، تأخذ على عاتقها التخفيف من حدة التوتر خلال الأزمات، بالسعي إلى تقريب وجهات النظر، إذ تختبئ هذه الشريحة خوفا من اتهامها بالخيانة الوطنية، وكأن هذه الأزمات تحولت إلى حروب طاحنة تملأ ساحات الحرب بالضحايا، وكل دعوة للحوار تستحق المحاكمة العسكرية.
وكباقي الأزمات، سيتم تجاوز الأزمة الحالية، وسيعود مسؤولو البلدين، الذين كانوا وقودا لهذه الأزمة بسبب تصريحاتهم النارية، دون معرفة مَن منهم يمتلك الحق أم لا يمتلكه، الى الحديث مجددا عن «متانة العلاقات بين البلدين» و»المصير المشترك» و»المستقبل الزاهر» أي ممارسة دبلوماسية بعيدة عن الواقع. لكن هذه التصريحات البروتوكولية لن تنفع في معالجة ثقل وتأثير الأحكام المسبقة التي تفاقمت خلال هذه الأزمة، وسط شعبي مضيق جبل طارق.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: