السياسات المغربية تطيح بعجرفة الإسبان بعد استقبالهم لإبراهيم غالي

Belbazi

ما الذي يطلبه المغرب من إسبانيا؟ من خلال رغبته في أن تكشف عن ملابسات استضافتها واحدا من ألد أعدائه، فإن ما يريده منها هو، أن لا تستمر في وضع العصي في دواليب مساعيه لتكريس مغربية الصحراء. لكن الإسبان يواجهون مأزقا جديا، فهم يعلمون جيدا أنهم سيدفعون باهظا ثمن أي تراجع في سياساتهم في ذلك الباب، ويعلمون بالمثل أن ثباتهم على مواقفهم بات مستعصيا جدا، بل حتى مؤلما ومكلفا لشرائح واسعة منهم. ولأجل ذلك فهم مضطرون وبعد مضي أكثر من شهر على اندلاع الأزمة، التي سبّبها استقبالهم لزعيم البوليساريو للعلاج في أحد مستشفياتهم، تحت اسم مستعار، لأن ينزلوا ولو قليلا، وبحذر من أعلى الشجرة.
وأولى العلامات على أنهم بدؤوا بالفعل في ذلك هو، محاولة وزيرة خارجيتهم خفض حدة التوتر، وتهدئة الأجواء الساخنة بين العاصمتين، من خلال حديثها الأحد الماضي للإذاعة الإسبانية، وحرصها على القول، في إشارة إلى إبراهيم غالي «لقد وعدنا بمعاملة هذا الشخص معاملة إنسانية. كان في وضع حرج بسبب مشكلاته الصحية المتعددة، ومنها إصابته الشديدة بكوفيد 19» ثم إضافتها أنه «عندما يتعافى سيعود لبلاده. وفي تلك الأثناء سيواجه سلسلة من الدعاوى القضائية، ونأمل أن يُتِم التزاماته تجاه النظام القضائي الإسباني».
وعلى بساطة ذلك التصريح وطابعه الدبلوماسي الموارب، وتغييبه المتعمد لأي التزام رسمي من جانب السلطات الإيبيرية، بعدم السماح لغالي بمغادرة التراب الإسباني بالطريقة نفسها التي دخل بها، أي بشكل سري، ومن دون الاستجابة لدعوة القضاء الإسباني بالمثول أمامه، مثلما يطالب به المغرب، فإن ظهوره لم يكن بالأمر السهل بالمرة، ويبدو أن امتناع الوزيرة عن الإدلاء بمثله قبل نحو أكثر من شهر، أي مع كشف وجود غالي في إسبانيا، رغم خلوه من أي إشارة إلى أن الحكومة الإسبانية ستجبر زعيم البوليساريو على أن يمثل بالقوة أمام القضاء، بعد تعافيه من أزمته الصحية، كان مجازفة غير محسوبة. وهكذا فإن محاولة أرانتشا غونزاليس لايا، تدارك الموقف، تعد بمثابة تجرع مرٍّ للسم، بعد أن قالت في وقت سابق، وتعليقا على بيان للخارجية المغربية، جدد احتجاج المغاربة على عدم إبلاغهم باستقبال غالي، بأن ليس لديها ما تضيفه في الموضوع. لكن ما الذي دفعها لذلك؟ وما الذي جعلها تتراجع وتقدم بعض التفسيرات للمغاربة، بغض النظر عما إذا كانت ستبدو لهم مقنعة أم لا؟ لا شك في أن القنبلة البشرية التي أشهرها المغرب في وجه إسبانيا قبل أسبوع، حين خفف وبشكل مفاجئ من قيود الدخول إلى جيب سبتة المحتل، وسمح لما يقرب من ستة آلاف مغربي بالزحف نحوها، أربكت حسابات مدريد، وجعلتها تنتبه إلى جدية التهديد المغربي. وهذا قد لا يكون سوى الجزء الظاهر من المسألة. فالسلاح الذي لوحت به الرباط كان رادعا ووازنا، لكنه كان كذلك ذو حدين، فقد كان من الممكن جدا أن يرتد عليها في أي وقت لو لم تبادر إلى تحييد أقوى سلاح مضاد يملكه الطرف المقابل، وهو سلاح انتمائه للاتحاد الأوروبي. وكان من الطبيعي هنا أن يتحرك المغاربة بشكل حثيث في معظم عواصم القارة العجوز، لوضع الأمور في نصابها، وجعل نزاعهم مع الإسبان يبدو مفصولا عن علاقتهم بأوروبا. وهناك أكثر من مؤشر على أنهم حققوا نجاحا ملحوظا في ذلك، ورغم أنه لا يعرف حتى الآن ما إذا كانت بروكسل قد وجهت لوما ما، أو حتى عتابا لمدريد على سوء إدارتها لأزمتها مع المغرب، إلا أنه من الواضح جدا، أن دولا مثل فرنسا باتت تشعر بنوع من القلق والانزعاج من الطريقة التي يتصرف بها الإسبان مع الجارة المغربية في ملف إبراهيم غالي، ما دفع المغاربة للرد في الأخير بذلك الشكل الحازم وغير المتوقع، الذي أربك الأوروبيين جميعا.

لا شك بأن القنبلة البشرية التي أشهرها المغرب في وجه إسبانيا قبل أسبوع، أربكت حساباتها، وجعلتها تنتبه لجدية التهديد المغربي

وهنا لم يكن من قبيل الصدفة أبدا أن يقول وزير الخارجية المغربي الناصر بوريطة، الأحد الماضي لإذاعة «أوروبا 1» وفي اليوم نفسه الذي خرجت فيه نظيرته الإسبانية بتصريح جديد حول الأزمة «إن المغرب يميز بين علاقاته الجيدة للغاية مع جميع دول الاتحاد الاوروبي تقريبا، والأزمة الثنائية التي ولدت من موقف عدائي من إسبانيا» ما قد يعني وبشكل غير مباشر أنه يتعين على الأوروبيين إفهام الإسبان مقدار الضرر الذي يلحق بهم جراء السياسة الإسبانية حاليا مع المغرب. لكن هل يمكن أن يؤشر ذلك إلى رغبة بالدفع قدما بمساع، أو بمحاولات لتقريب الشقة بين الجانبين؟ حتى الآن ليس معروفا بعد إن كانت مكالمة وزير الخارجية الفرنسي لنظيره المغربي السبت الماضي، قد جاءت في ذلك السياق. ولكن يبدو أن هناك ضغوطا فرنسية وأوروبية، لحث مدريد على مراجعة موقفها من الأزمة، وقد يكون تغير لهجة وزيرة الخارجية أرانتشا غونزاليس لايا محصلة لتلك الجهود. ومع أنه سيكون من الصعب أن يتخلى الأوروبيون عن إسبانيا، إلا أنه سيكون من غير المؤكد أيضا أن ينزلوا بثقلهم لدعم ما قد يراه جزء منهم على الأقل، خلافا لا طائل منه. والسؤال هو، هل إنهم سيقفون بالضرورة مع من يرونه الطرف الأقرب لهم؟ أم مع من يمكن اعتباره الطرف الأقوى في الأزمة؟ بالنسبة لهم ربما يبدو الأمر واضحا، فما حصل في سبتة ثم بدرجة أقل في مليلية، جعلهم واثقين من أنه لا سبيل لاستقرار دولهم بمعزل عن أمرين وهما، منح المغرب دورا أكبر من دور دركي يحمي حدودهم، والعمل على تبني حل حاسم ونهائي للملف الصحراوي، بتخليهم عن محاولة مسك العصا من الوسط. ورغم تأكيد الإسبان، أكثر من مرة، على أنه لا سبيل لأن يدفعهم اي ضغط مغربي في سبتة، لأن يراجعوا موقفهم من الصحراء، فإنه ليس ثابتا بعد أن الأمور ستبقى على حالها، ولن تكون هناك تداعيات مباشرة لما جرى بين مدريد والرباط على الموقف الأوروبي من النزاع في الصحراء.
وفي ما لا تزال الجزائر، وهي الطرف الآخر في النزاع، تترقب تطورات الأزمة الإيبيرية المغربية، وتأمل بأن لا تتراجع مدريد أمام الرباط، لإدراكها لانعكاسات ذلك على أكبر ملف يشغلها، وهو ملف الصحراء، يبدو أن المغاربة قد بدأوا بجني أولى ثمار تصعيدهم مع إسبانيا، من خلال عودة الدفء إلى علاقتهم بموريتانيا بعد فترة من البرود والجفاء، الأمر الذي قد يخلط الأوراق الإقليمية من جديد. ومع أن الإسبان يأخذون، بلا شك، كل تلك العوامل بالاعتبار، إلا أنهم لا يزالون يبدون قدرا واضحا من التعنت، وربما التردد والحذر المفرط، ساعين للبحث عن أقرب مخرج من الأزمة بأخف الأضرار الممكنة. أما هل سينجحون في النهاية في مواجهة الضغوط القوية للمغرب أم لا؟ فلن نعرف ذلك إلا في حالة واحدة وهي، متى رأينا الطريقة التي سيتصرفون بها، إن تمكن زعيم البوليساريو من مغادرة مشفاه الإيبيري حيا يرزق.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: