الثقافة تستغرق وقتا لمواكبة التكنولوجيا وهذا ما يسبب الصراعات

ينظر العلماء بمختلف التخصصات إلى الثقافة على أنها ليست نتاجًا للتطور البيولوجي فحسب، بل باعتبارها مكملًا له، والوسيلة الرئيسية للتكيف البشري مع العالم الطبيعي، إذ أن التقاليد الثقافية البشرية تراكمت من خلال التعديلات المستمرة على مر الزمن التاريخي وساهمت في ترسيخ التكيف. فقد مكن التكيف الأفراد من فهم الآخرين وتجاوز أي إرباك في التصورات للإدراك الاجتماعي منذ بدأ عملية الوعي، وهذا ما سنحاول شرحه.

إن النظرة إلى الثقافة كنظام رمزي مع وظائف تكيفية تشير إلى الطريقة التي نفهم بها أنفسنا كأفراد فاعلين داخل المجتمع، وتشمل أيضا الأساطير والدين والإعلام والابتكار والطقوس وحتى اللغة نفسها، لذا يمكن اعتبارها طريقة تفكير ومرجعا لفهم السلوك البشري وعلاقته بالمتغيرات الحاصلة طيلة مسيرته الحياتية كذات وكجزء من المجتمع ومنظومته الثقافية.

وحسبما قعَّد له عدد من الباحثين في العلوم الاجتماعية، يتجلى التكيف الثقافي في الميول السلوكية الثقافية القائمة داخل المجالات الاجتماعية التي تنظمها اللغة والثقافة، فاللغات نفسها تطورت وتكيفت مع مرور الوقت وتراكم التجارب الإنسانية والاحتياجات اليومية حتى أضحت نوعا من التقاليد الثقافية تعزز فهم الثقافة والتطور الثقافي الذي حدث مع تطور الأنواع البيولوجية.

التغيير الاجتماعي والثقافي

إن البنى الاجتماعية واللغات والملكات وسمات الشخصية والجينات هي كلها ظواهر ووقائع ذات تاريخ معين وهي عرضة للتغير على الدوام، فالأشخاص يبدلون عقائدهم وثوابتهم ويضيعون مخزونهم من الأحداث الماضية حين لا يفعلونها ويستعيدونها من حين إلى آخر.

هناك من يجادل بأن عدم التكيف الثقافي بكل أشكاله قد يكون معبرا إلى التأخر الثقافي، ووفقا لعالم الاجتماع الأميركي، ويليام فيلدينغ أوغبورن، فإن التأخر الثقافي هو ظاهرة مجتمعية شائعة بسبب ميل الثقافة المادية إلى التطور والتغير بسرعة بينما تميل الثقافة غير المادية إلى مقاومة التغيير والبقاء ثابتة لفترة زمنية أطول بكثير. تقترح نظريته عن التأخر الثقافي أن فترة من عدم التوافق تحدث عندما تكافح الثقافة غير المادية للتكيف مع الظروف المادية الجديدة.

إدارة التنوع الثقافي تتطلب قدرا كبيرا من التسامح لإقامة نوع من العدالة متعددة الثقافات والتعايش السلمي لمحاصرة التعصب

بالتالي فالتأخر الثقافي ليس مجرد مفهوم كونه يتعلق بنظرية وتفسير في علم الاجتماع، بل يشير المصطلح إلى فكرة أن الثقافة تستغرق وقتًا لمواكبة الابتكارات التكنولوجية، وأن المشكلات الاجتماعية والصراعات ناتجة عن هذا التأخر، وبالتالي يساعد التأخر الثقافي في تحديد المشاكل الاجتماعية وشرحها والتنبؤ بالمشاكل المستقبلية.

ويوضح المفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي الفكرة من منظوره حينما يؤكد أن الطفرة الإعلامية والتكنولوجيا تجعلاننا اليوم نواجه عالما تعجز مفاهيمنا التقليدية عن استيعابه، لعل أهم مميزاته التضاؤل الذي أخذت تعرفه أهمية المكان ليغدو الزمان هو كل شيء، وليحل الوجود الآني في الأمكنة المتعددة محل الأبعاد المكانية، فهو يرى أن تكنولوجيا نقل المعلومات تقضي اليوم على المكان وتقلص العالم لتجعله نقطة واحدة فترده إلى زمان.

رغم تمايز التعريفات الحداثية وما بعد الحداثية للثقافة فالأكيد عند علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن هناك تأثيرا لعمليات نقل الثقافة على كيفية الحفاظ على السمات الثقافية أو فقدانها لدى السكان على مدى قرون طوال متواصلة.

وإذا كانت للتغيير الثقافي أسباب متعددة بما في ذلك البيئة والاختراعات التكنولوجية والتواصل مع الثقافات الأخرى، فملامح تأثر الثقافات خارجيًا تظهر من خلال الاتصال بين المجتمعات لغويا وعسكريا واقتصاديا ودينيا واجتماعيا، والذي قد ينتج أيضًا تحولات وتغيرات اجتماعية في الممارسات الثقافية التي تختلف من مكان إلى آخر، وهذه النظرة للثقافة كنظام رمزي بوظائف تكيفية ستتجلى فيما بعد في تسليع الثقافة، وهنا قد تخبر الملابس التي ترتديها عن المستقبل بأزياء اليوم، قد تكون نظرية التشيؤ تعبيرا صارخا عنها، وهي تحويل العلاقات بين الناس إلى علاقات بين أشياء.

يجب أن يكون ذلك ممكنًا، إذا أدركنا أن علاقة الناس وإدراكهم للأشياء يعتمدان على المجتمع والثقافة، ووفقًا لذلك يمكن مناقشة المواقف الاجتماعية والثقافية من خلال عدسة علاقة الثقافة بالأهمية المادية، وهو ما عبر عنه الروائي الإسباني خافيير غارثيا سانتشيث بالقول إنه غالبًا ما كان يتصور البشر مجرد أشياء تفكر ويشعر دائمًا بافتقاده للقدرة الداخلية على معاشرة العالم ومن ضمنه البشر، و”الهروب إلى الرواية كمجال تعبيري ذي فائدة لمن لديه مشاكل وتطلعات وكوابيس مثلي”.

وعليه فقد سار الاعتقاد بأن الثقافة يمكن أن تنتقل من شخص إلى آخر، ما ينطبق بالضرورة على المجموعات الإثنية والثقافات المختلفة، التي على الرغم من تقييدها يمكنها أن تتغير، وقد تحدث إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، عن الإثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات بمعنى التأثير المتبادل من خلال الرموز والمعاني المشتركة، والتي يعاد تشكيلها وإعادة ترتيبها حسب البيئة والاستعداد، دون أن نغفل أن الثقافات بدورها تتأثر داخليًا بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والدينية وغيرها التي تشجع التغيير، وتلك التي تقاوم التغيير.

ونرى التغيير الثقافي والاجتماعي الحاصل من زاوية المفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي، الذي ربط ثقافة الشاشة سواء كانت شاشة تلفزيون أو شاشة كمبيوتر بالثقافة الشفوية وثقافة الكتاب كأدوات تعبير، على مستوى الوجود ذاته، فالصورة والكتابة والكلام، من منظوره، تحدد جميعها مجالا معينا للمعقولية، وتزاحم الصور وتشابك القنوات التي تنقلها يولدان اليوم رؤية بلورية للواقع تبدل تمثلاتنا وحساسيتنا، وتتيح لمخيلاتنا العمل في فضاءات جديدة.

ومن خلال هذا الفهم الفلسفي لمعاني ربط التغيير الثقافي بالاجتماعي ووساطة المثقف كبانٍ للخطاب ومتبنيه، نعود إلى إدوارد سعيد الذي يرى في النص منتجا ثقافيا له تفاصيله المكانية الملموسة والمحسوسة، كما يراه الباحث الفلسطيني عبدالله البياري، فهو ليس بناءً خاملاً بل له تاريخه الاجتماعي والسياسي والثقافي أي أن له وجوده المادي “المتشابك مع ظروف وزمان ومكان ومجتمع”، وهو ما ينتج عنه “قدر من الاتصال المباشر بين المؤلفين ووسيلة التواصل اللغوي حين يكون من موجودات العالم”.

وما دمنا نتحدث عن دور النص في عملية التغيير والنظرة إلى الحياة فالأدب الروائي كثقافة تمثيل مخادع للحياة ومع ذلك يساعدنا على فهمها بشكل أفضل، حسب ماريو يوسا، كما يعوضنا عن الخيبات والكبت اللذين تصفعنا بهما الحياة الحقيقية. أما الروائي الإسباني خافيير غارثيا سانتشيث فيعتقد أنه ينخرط في كتابة النص الروائي لأنه يعتبر نفسه مطابقا لتاريخ معاد له.

التعصب الثقافي كفعل إنساني

ننتقل إلى سلوكات إنسانية كرد فعل لمفهوم معين للذات والآخر من بوابة التنوع الثقافي الذي يسلط الضوء بشكل حتمي على الأسئلة المتعلقة بقبول واستيعاب الاختلافات الجماعية، فضلاً عن تلك المتعلقة بكيفية التعامل مع المعتقدات والممارسات خارج المجموعة، مثل الجدل حول مستوى القبول بالمجموعة البشرية الذي غالبا ما يكون مشوها بسبب تصورات نمطية للنفس والمجتمع.

ويرى عدد من علماء الاجتماع الأميركيين، أنه من غير المحتمل أن أعضاء المجموعة الذين لديهم قناعة قوية، سواء كانت ثقافية أو دينية أو سياسية، سيقبلون ويوافقون على معتقدات وممارسات أعضاء خارج المجموعة يؤيدون بشدة رؤية بديلة للعالم.

الطفرة الإعلامية والتكنولوجيا تجعلاننا اليوم نواجه عالما تعجز مفاهيمنا التقليدية عن استيعابه ويحتم علينا تطوير ثقافاتنا

فإدارة التنوع الثقافي تتطلب قدرا كبيرا من التسامح لإقامة نوع من العدالة متعددة الثقافات والتعايش السلمي، وذلك لمحاصرة التعصب لثقافة أو عرق أو دين أو طائفة، وهو مصطلح صاغه ويليام جراهام سمنر، باعتباره الميل للنظر إلى العالم في المقام الأول من منظور ثقافتك العرقية والاعتقاد بأن هذا هو في الواقع الطريقة الصحيحة للنظر إلى العالم والناس، يؤدي هذا إلى وضع افتراضات غير صحيحة حول سلوك الآخرين بناء على معاييرك وقيمك ومعتقداتك. ولعلنا في حاجة إلى فهم موقف محايد كمحدد للنسبية الثقافية يؤكد أن معتقدات الفرد وأنشطته وسلوكاته يجب أن يفهمها الآخرون من منظور ثقافة ذلك الفرد، ولهذا يعتبر علماء الاجتماع أن طريقة التعامل مع افتراضاتنا الخاصة لا تتمثل في التظاهر بأنها غير موجودة بل الاعتراف بها، ومن ثم استخدام الوعي بأننا لسنا محايدين لإبلاغ استنتاجاتنا.

وقد لاحظ إدوارد جيبون أن الفلاسفة والمؤرخين يسهمون في تقدم مجتمعاتهم عندما يستأصلون شأفة الأفكار المتعصبة، وفي ذات الاتجاه فكل مجتمع بحاجة إلى جماعة من المفكرين الذين يحملون مشروعا ثقافيا يحول دون هيمنة وتغول اتجاه أيديولوجي واحد على حساب بقية الاتجاهات، كما يؤكد جيروم كيغان.

وإذا ربطنا درجات التعصب باعتباره الثقافة عند البعض مؤدية إلى فعل إجرامي مادي أو معنوي، نستحضر تركيز عالم الجريمة الإيطالي سيزار لومبروزو، كونه إحدى الشخصيات الرئيسية في المدرسة الوضعية في الفكر الاجتماعي، على الخصائص الجسدية للسجناء التي يعتقد أنها سبيل أساسي بيولوجي للجريمة، ولفهم سلوك المجرمين وفهم الاختلافات التي نراها في الإنسان والمجموعات الثقافية.

فالقدرة الإيجابية على التعامل مع متطلبات الحياة وتعقيداتها تتحدد من خلال الشخصية والثقافة ودرجة الاعتمادية، وهناك من حاول ربط هذا الفهم بعوالم الجريمة بجميع أشكالها ودوافعها التي قد يكون التعصب أحد تمظهراتها، وقد صاغ لومبروزو مصطلح atavism  ليشير إلى أن بعض الأفراد كانوا ارتدادًا إلى نقطة أكثر وحشية في تاريخ التطور، كما استخدم هذا المفهوم للادعاء بأن بعض الأفراد كانوا أكثر ضعفاً وأكثر عرضة للنشاط الإجرامي من نظرائهم المفترضين الأكثر تطورا، وأن هؤلاء الأشخاص ينقادون إلى الجريمة بتأثير العوامل الوراثية ويندفعون إلى الإجرام بحكم تكوينهم البيولوجي اندفاعاً حتمياً.

وفي المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، ظهرت إستراتيجيات جديدة لمكافحة الجريمة من خلال استلهام ما صاغه لومبروزو، مع تطوير نظرية التكيف الثقافي. ويجادل بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا بأن التحولات السياسية في السنوات الأخيرة كانت مشروطة بالتغيرات السابقة التي حدثت على مستوى الهياكل الاجتماعية والحساسيات الثقافية جنبًا إلى جنب مع توصيف ثقافة المجتمعات عالية الجريمة.

للمرور من التمييز الحضاري على أساس العرق والمحددات الثقافية نجد أنفسنا أمام ربط عنصر التقدم والحضارة كنقيض للتأخر الثقافي والفكري بدرجة ومستوى الفعل الثقافي والجرأة المفاهيمية للنص، وبالتالي فعجز الإنسان العربي عن التقدم والتحرر الثقافي والفكري يعود في نظر الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي إلى سيطرة المفاهيم المبهمة التي نقرأها دون فهمها أو دون ردها إلى سياقها التاريخي والمفاهيمي ودون التمييز بين مختلف استعمالاتها.

وقد يكون النص الروائي جزءا من رصد المتغيرات الاجتماعية والسلوكات غير المنضبطة للقانون ومنطق الأشياء، إذ غالبًا ما تُستخدم الرواية كمنصة للتعبير عن الاختلافات البيولوجية بين الأفراد وبين الأعراق وكمبرر على عدم المساواة والمشاكل الاجتماعية الأخرى التي هي في الواقع نتاج الاختلافات الثقافية والضغوط الاجتماعية والسياسية، لهذا نجد أن النسبية الثقافية ضرورة وجودية واجتماعية لتصور الذات وفهم الآخر ثقافيا وعرقيا وطائفيا وتذويب العناصر المؤججة للتعصب الثقافي.

وينطلق المثقف الروائي من خلال تقاطع عالم الحس والتخيل مع عالم الواقع والمعيش، لتفكيك مناطق الظل وصياغة معادلات الابتكار في النماذج التطورية الثقافية كعملية عشوائية مماثلة للطفرة الجينية وما يختلج داخل الشخصية من انفعالات وطموحات وخيبات وآمال تخلق منه متعصبا لوجهة نظره الثقافية، وهو ما يعد تقريبا الطريقة التي يبتكر بها البشر القيمة التكيفية للمتغيرات الخارجية قبل التعيير الذاتي كأحد أهم آثار التحولات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: