20 ألف مغاربي يعيشون في جزيرة على بعد 20 ألف كلم
كان الاستعمار الفرنسي من أقسى التجارب الاستعمارية الحديثة بالقارة السمراء. وكانت شمال إفريقيا وخصوصا الجزائر والمغرب قد عرفتا جرائم حرب رهيبة ارتكبها الجيش الاستعماري ومن ذلك قطع الرؤوس وتعليقها والتمثيل بها لإرهاب السكان. كما كانت «تُدفع» القبائل المحلية أثناء العمليات الحربية داخل الأدغال الغابوية والمغارات ثم يتم إشعال النار بباب الأخيرة لخنق وحرق من يوجد بها. كان المفهوم العسكري المستعمل في هذه الحالة هو «التدخين».(Enfumage)
وهي ممارسة اقترنت باسم الجنرال السيئ الذكر بوجو رغم أنها استعملت قبله. وحسب عسكريين فرنسيين ندموا على فعلتهم حرض بوجو في يونيو/حزيران 1845 بهذه الكلمات الإجرامية رجاله الذين كانوا يواجهون مقاومي الأمير عبد القادر الجزائري: «دخنوهم بالمغارات كما تُدخن الثعالب».
حوالي أسبوع بعد هذا التصريح ستُباد قبيلة أولاد رياح بأطفالها ونسائها بشكل شبه تام إذا ما استثنينا بعض الرجال الأقوياء الذين استطاعوا المرور عبر النيران الملتهبة بباب مغارة غار الفراشيح بجبال الظهرة شرق مستغانم.
ولنقرأ هاته الكلمات الرهيبة التي خطها شاهد عيان وهو جندي فرنسي في رسالة لعائلته: «أي ريشة سترسم هذه اللوحة. كنا نرى على ضوء القمر جماعة من الجنود الفرنسيين منشغلين بالجدية اللازمة بتغذية تلك النار الجهنمية. كنا نسمع أنين الرجال والنساء والأطفال والحيوانات»…في الصباح شاهدتُ منظرا مرعبا حقا: «رأيت بين بين أكوام جثث الحيوان والبشر… رجلا ميتا يضع ركبته على الأرض ويده ملتوية من الألم وهي لا زالت تقبض على قرن ثور. كانت أمامه امرأة تحتضن طفلها وكأنها تحميه. لقد فهمت: إن الرجل كان يحاول الوقوف في وجه الثور الهائج والمهاجم لأسرته».
هكذا كانت تصفي فرنسا الاستعمارية من يعارض توسعها بالمنطقة ولكن باريس كانت تلجأ إلى طرق أخرى منها نفي الآلاف من المغاربيين إلى أراض بعيدة وأحيانا معزولة تماما عن باقي المعمورة كجزيرة كاليدونيا الجديدة أو كَناكيا، وهو الاسم الوطني للبلاد.
تتالت حملات الترحيل القسرية من البلدان المغاربية الثلاثة وخصوصا من الجزائر للمقاومين ومعتقلي الحق العام إلى أن تجاوز عدد المهجرين حوالي الألفين عند نهاية الحرب العالمية الأولى
وقبل الاسترسال في قصة المنفيين المغاربيين بهاته الجزيرة الجديدة الموجودة بأقاصي المحيط الهادي والبعيدة عن كل شيء لا بد أن نذكر للحقيقية والتاريخ أنه، لما كشفت بعض الصحف الأوروبية خبر المحرقة، ثارت ثائرة بعض المثقفين والصحافيين والسياسيين مما دفع وزير الحرب الماريشال صولت المعروف بقساوته للتعبير عن غضبه من العسكريين المسؤولين عن الجريمة. لكن الفاعل الأساسي القبطان بيليسيي سيرقى إلى رتبة جنرال بل وسيصبح حاكما عاما للجزائر سنوات بعد تدبيره «محرقة العرب» كما سماها بعض الصحافيين آنذاك…كان ذلك واقع الاستعمار.
كانت ثورة المقراني ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1871 بالجزائر، إيذانا بالبداية الحقيقية لنفي المغضوب عنهم من المغاربيين إلى أرخبيل كناكيا. إذ سيصل منهم إلى الجزر النائية، خلال السنوات القليلة التالية، حوالي ثلاثمائة وخمسين من المقاومين والأعيان الذين شاركوا في الانتفاضة المسلحة. وستستمر عمليات النفي اللاإنسانية لحوالي نصف قرن. كان يقضي المنفيون شهورا في السفن المتجهة صوب الجزيرة والتي كانت تقطع بهم أحيانا ثمانية وثلاثين ألف كلم وهو شيء رهيب آنذاك.
كان الكثير منهم يموتون بالأمراض خلال الطريق بل إن منهم من كان يدخل في إضراب عن الطعم حتى الوفاة.
كان بعضهم يوضع في معتقلات محصنة كما في جزيرة ليبان المعروفة برمالها البيضاء الرائعة. إنها عبارة عن منظومة طبيعية متناسقة وبالغة الجمال يداخل فيها الماء الشجر والحجر، والتي كانت تلقب «بالجزيرة الأقرب إلى الجنة».
تتالت حملات الترحيل القسرية من البلدان المغاربية الثلاثة وخصوصا من الجزائر للمقاومين ومعتقلي الحق العام إلى أن تجاوز عدد المهجرين حوالي الألفين عند نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن القصص الإنسانية المؤثرة أن ثوار كومونة باريس اليساريين قد تم نفيهم في نفس الفترة إلى نفس الأرخبيل. كان الجزء الأكبر من هؤلاء مثقفين ونقابيين عماليين أو مناضلين محترفين. حصل تقارب آدمي وسياسي كبير بين «العرب» والثوار الفرنسيين. حتى أن بعض هؤلاء، لما أفرجت عنهم الحكومة ورجعوا لفرنسا، خلقوا لجنة تضامن مع أصدقائهم المغاربيين ودافعوا عنهم حتى سمح لبعضهم بالذهاب إلى فرنسا أو بالرجوع إلى بلدانهم الأصلية بين الحربين الكونيتين.
الغريب في القصة ورغم توالي الأجيال أن بعض أعضاء اللجنة أو بالأحرى أبناءهم وأحفادهم سيساهمون في الدفاع عن استقلال بلدان شمال إفريقيا خلال الخمسينيات من القرن العشرين.
يبلغ عدد السكان ذوي الأصل العربي ـ الأمازيغي بكل الأرخبيل اليوم حوالي العشرين ألفا ولا زال حوالي ثلثهم يدين بالإسلام رغم أن السلطات الاستعمارية كانت قد عمدت إلى تطبيق سياسات هدفها محو هويتهم ومن ذلك منع الأسماء الشخصية العربية للمزدادين بالأرخبيل وإعطاء شكل لاتيني للكثير من أسماء العائلات، هكذا تحول مثلا اسم ابن البدرون إلى بيلباطرون