مدن عالمية صنعها الأدباء وصنعتهم

للمكان رهبته وقدسيته وأفقه الخالد عبر الأزمان، والمدن أمكنة مميزة لها عشقها ورونقها ونقاؤها وحواشيها وفوضاها وعبثيتها، ولا يستقيم الحديث عن المكان – المدينة بشوارعها وحاراتها الضيقة الملتوية دون إقحام ضروري للوجود الفيزيقي المادي والوجداني للبشر، وتدخل المدن في السرد الأدبي كمساحات خيالية أو بالأحرى تمثلات للحقائق المادية والعاطفية لما يراه الكاتب وما يستنشقه.

بعض المدن تفرض ذاتها على الكاتب بإصرار أيا كانت مرجعيته الثقافية والأيديولوجية وانتماؤه الجغرافي، وتجعله يستمد من عوالمها في عمله الروائي أو القصصي، لتحديد لحظة مهمة في تاريخ المجتمع المعني وبنائه الثقافي والنفسي والاقتصادي والديني، فمن المدن تطورت جميع الحركات الاجتماعية والسياسية، لذا فهي منعطف ضروري للكاتب في تأثيرها فيه وتأثرها به.

المدينة هي الزخم الرئيسي في الأدب، وتعكس العديد من الروايات والقصائد والقصص الطرق التي تولد بها المدن حالات الصدمة والابتهاج والاغتراب وإخفاء الهوية والارتباك أو التشويق، رأينا هذا مع القاهرة وحاراتها في الأدب المحفوظي، نسبة إلى نجيب محفوظ، وكيف استطاع هذا الأديب المصري أن يجعل من مدينته تنتمي إلى فكرة الذات المعزولة ومساءلة المركز الحضري الحديث باستغلال الهوامش بأبطاله وحرافيشه وعمرانه الممتد بين الخيال والواقع.

المدينة الملهمة

لقد ألهمت المدن العديد من أشكال الكتابة التي حاولت التعامل مع تحديات التفكير فيها وتمثيلها ليست كمنازل وشوارع ومحلات، وإنما كحياة تحمل كل أنات وضحكات وعبرات وطموح وزلات وكبوات ونجاحات، من يعيش بداخل أحيائها، وقد كانت شخصيات روايات نجيب محفوظ تعبيرا عن هذا المشهد في “زقاق المدق” و”خان الخليلي” و”القاهرة الجديدة” و”بين القصرين” و”السكرية” و”قصر الشوق”.

مواضيع النظام والفوضى داخل المدن ظهرت في أشكال السرد المختلفة التي عكست المرحلة التاريخية للمدينة، من حكاية العصر الفيكتوري إلى صور ما بعد الحداثة في نيويورك وغيرها من مدن الشرق والغرب، فعندما ننظر إلى علاقة المدن وأدباءها من طنجة إلى القاهرة ومن الصين إلى بيرو، من نيويورك إلى باريس، ومن لندن إلى كينشاسا، نجد هؤلاء المبدعين يبحثون بشكل حثيث عن الطرق والأساليب التي يمكن أن تجبر بها المدن الحديثة، سواء كانت عواصم أو مدن صفيح أو مدنا صناعية، الناس على تغيير طريقة تفكيرهم ونمط حياتهم.

وعندما نتمعن جيدا في روايات نجيب محفوظ نجده يتعامل مع مدينته باعتبارها أرضية اجتماعية وثقافية معقدة أفرزتها المدينة بكل أشكال علاقاتها ومؤسساتها وشخوصها وقوانينها، وبالتالي فالذي دفع محفوظ كي يجنح إلى الرواية الاجتماعية من داخل حواري القاهرة، كما يرى نبيل راغب، هو أن البطل الحقيقي في رواية زقاق المدق هو الزقاق نفسه، وباقي الشخصيات في الرواية لا تقوم إلا بدور الأبعاد المجسمة للتكوين الاجتماعي والنفسي للمكان كمكون أساسي للمدينة.

ما يجمع الواصلين إلى طنجة من فنانين تشكيليين وموسيقيين وكتاب وشعراء موهوبين هو البحث عن حياة مختلفة

ولأهمية تأثير الأدب على المدن ما أعلنه جيمس جويس ذات مرة، أنه إذا كان مقدرا لمدينة دبلن أن تختفي يوما ما فجأة من على الأرض، فيمكن إعادة بنائها من كتابي يوليسيس، وهذا فعلا واقع لا غبار عليه حيث أن هذه القصة تلتقط التفاصيل الدقيقة لجغرافيا المدينة وشوارعها وحياة الناس فيها عندما كانت الجغرافيا الاجتماعية للمدينة أكثر تعقيدا.

فإذا كانت لندن بجغرافيتها تظهر كمتاهة وضبابها المربك مناسبا لخيال الكاتب حول غموض الحياة الحديثة، فإن جيمس جويس الذي غادر مدينة ولادته، دبلن، في عمر 22 سنة فقط، ليعيش حياة المنفى في المراكز الحضرية العالمية: ترييستي، زيورخ، باريس، كانت عودته إلى “دبلن القذرة العزيزة” من خلال خياله حيث تخيل موطنه الأصلي كمكان لـ”دلالات شديدة”، ولكنه يمثلها لاحقا بمودة متزايدة كمكان للفرص الخيالية والعاطفية.

وحتى لا نذهب بعيدا عن الجغرافيا الأوروبية فقد اشتهرت مدينة أمستردام كعاصمة للكتاب العالميين منذ العصر الذهبي للجمهورية الهولندية في القرن السابع عشر، وهي التي فتحت أبوابها دائما للكتاب الهاربين من الاضطهاد في مكان آخر، في الوقت الذي وصف فيه فيودور دوستوفسكي، سانت بيترسبورغ بأنها المدينة الأكثر تجريدا في العالم والنابضة بالحياة، كونها وفرت خلفية مكانية وإنسانية للعديد من الأعمال الأدبية الكلاسيكية والحديثة.

من المغري الحديث عن مدينة طنجة العالية كما يسمونها المغاربة، لاعتبارات الجغرافيا حيث تأتي في رأس الخارطة على الضفة الشمالية للبحر المتوسط والمحيط الأطلسي، مدينة تجمع التاريخ والثقافة والسياسة، وهي معبر أبدي من الجنوب نحو الشمال ومكان استقرار لفنانين وأدباء عشقوها فعقدوا القِران معها زواجا لا طلاق بعده.

ولم تفلت طنجة المغربية من التصنيف أعلاه كمدينة أثرت وتأثرت بكتابها والمارين فوق أرضها، فهي المدينة الحية القابعة بين شاطئين وتأثير أربع ثقافات الإيبيرية والعربية والأمازيغية والأفريقية، فتحت ذراعيها حاضنة كل اللغات والأدباء والفنانين والمتشردين والأفاقين. طنجة بدروبها الملتوية وعقباتها المتعبة وحاناتها الصاخبة، كانت دائما تلك المرأة التي حافظت على رونقها وعبقها رغم مرور الأزمان وتواتر الأيام والشخوص، وهي المرآة التي انعكست في حكايات وقصص من زارها ومكث بها من كتاب ومؤلفين سحرتهم بلياليها وناسها وهوائها وموسيقاها ومطبخها.

ما بين الروائيين الأميركي بول بولز والمغربي محمد شكري حكايات كثيرة مكتوبة في مدينة طنجة

مع استكشاف التغييرات التي تحدث داخل المدينة نفسها فقد أعطى لها الأدب واقعا خياليا أغناها وساهم في إبراز التغيرات الحضرية والاجتماعية فيها، حيث تخزنت حكايات طنجة الغزيرة بين دفتي كتب يوميات بول بولز ومحمد شكري ووليام بوروز وتشكيل فرنسيس بيكون، الذعر والأمان، الخمر والجنس، الطموح والغموض، الصداقة والخيانة، الحكي اللا متناهي والسكون المتأمل والدخان المنبعث من سجائر رخيصة، كلها كانت مترادفات العيش والعشق واللغة السائدة في فترة صاخبة من حياة طنجة قبل بداية القرن الحالي.

ساعدت أجواء مدينة طنجة الشاعر والروائي الأميركي ويليام بوروز، المعروف بكتاباته في ما بعد الحداثة، على تأليف كتابه  Le Festin nu “الغداء العاري”، وهي المدينة بتضاريسها الخاصة ومكانتها كمنطقة دولية منذ عشرينات القرن الماضي، هي من سمح ببلورة الكتابة حول تجربة قوية للأماكن وتجربة الناس بكل تفاصيلها غير السارة ساهم فيها هامش من الحرية.

جمهرة كبيرة من الفنّانين والأدباء والصحافيين والشعراء من كل الجنسيات، دلفوا المدينة على فترات وفتنوا بها بقوة وطوروا قدراتهم الإبداعية بشكل كبير، وكان الأميركي الطنجي بول بولز نقطة الجذب بالنسبة إلى كل هؤلاء، فبعد وصول جون هوبكنز إلى طنجة في العام 1962، بفترة وجيزة ربطت بينه وبين بولز علاقة صداقة. وكان يقرأ كل ما أنتجه ويقوم بالتعليق عليه، وكان يكتب بعناية ويأمل في أن يحذو الآخرون حذوه، و”بفضله نشرت أولى قصصي القصيرة وكانت انطلاقتي الأدبية”، يقول جون هوبكينز، ويضيف “الحق أنني محظوظ جدا لأني عثرت على هذا الأديب الشهير كموجِّه لمساري الأدبي، ولم أكن المستفيد الوحيد”.

من بين الوافدين المفتونين بطنجة الفنان فرنسيس بيكون الأيرلندي الذي زار المدينة في خمسينات القرن الماضي، قال إن أعمالي ليست إلا سعيا دؤوبا لإظهار نمط من أنماط الإحساس، فالتصوير يعكس بنية جهازنا العصبي الخاص وذلك من خلال إسقاطه على القماش، ليتأكد كلامه مع البورتريه بالباستيل، الذي اكتشفه الممثل الفرنسي جيرار دو سارث، في يوليو 2010 تحت اسم “William S. Burroughs. Tanger 54”، وتابعته الناقدة الفنية مونا توماس لتكتشف أنه هو من رسمه للفنان المغربي أحمد اليعقوبي وصديق للكاتب والموسيقي الأميركي بول بولز، والذي رافقه خلال جولاته بالعالم.

المدن ألهمت العديد من أشكال الكتابة التي تعاملت مع تحديات التفكير فيها وتمثيلها ليس كمكان فقط وإنما كحياة

بيكون درَّس الرسم للمغربي أحمد اليعقوبي وهذا الأخير كان صديقا حميما لبول بولز الذي عرفه بالفنانة الأميركية بيغي جوجنهايم، والتي بدورها فتحت له أبواب عرض لوحاته بالولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي تزوج أديبة أميركية زارت طنجة، هذا التداخل بين الرسم والقص والموسيقى والشعر لا يخرج عن تمثل معين لمدينة طنجة بكل مفاتنها ومساوئها، عند بيكون واليعقوبي وبول بولز وغيرهم من الشخصيات المؤثثة لفضاءات هذا المكان بكل حمولاته التاريخية والسياسية والثقافية.

على فترات من الزمن الطنجي الثقافي والفني كان حضور ترومان كابوت، ألن غنسبرغ، جون أورتن، وبوروز في مقدمة كتاب جيل الثقافة المضادة للرأسمالية الاستهلاكية في الستينات والسبعينات، كل منهم عبر عن تجربته الخاصّة مع المخدرات والعوالم الغرائبيّة والشذوذ الجنسي، إبداع هؤلاء خلخل الواقع اليومي، وكل قواعد النفاق المجتمعي تُعَد رواية “الغداء العاري” لوروز و”الخبز الحافي” لمحمد شكري أهم ما كتب في هذا الخصوص.

ما يجمع الواصلين إلى طنجة من فنانين تشكيليين وموسيقيين وكتاب وشعراء موهوبين هو البحث عن نمط حياة مختلف غير ذلك الذي كانوا يعيشونه في كنف أسرهم وأماكن ولادتهم، وكان الجنس والفن والثقافة عناصر مرتبطة دائما عند هؤلاء، وطنجة ليست فقط مدينة ممارسة الدعارة الجنسية وتهريب المخدرات، بل هي مكان للتواصل مع قوى الظلام ساهمت في إبراز مكانة من زارها من المبدعين العالميين.

بول بولز وشكري

زيارة بول بولز الأولى للمغرب كانت في العام 1933، عملا بنصيحة مواطنته، الكاتبة غيرترود شتاين، ليستقر فيه منذ العام 1947 حتى وفاته سنة 1999، وكانت طنجة ملهمة بولز في روايته “دعه يسقط” ورواية “بيت العنكبوت”.

اعتبرت طنجة رابطا وجدانيا كبيرا بين بول وجين بولز، رغم انفصالهما، وها هو هوبكنز يتحدث عنهما حيث كانا يقيمان بشقتين منفصلتين، إحداهما فوق الأخرى، بعمارة إتيسا الصغيرة رمادية اللون التي توجد خلف القنصلية الأميركية. كانت تشبه مسكنا من طابقين من دون سلم يربط بينهما.

يقول هوبكنز كان الزوجان يتواصلان عبر لعبة هاتفية كانت تزعق بهما عند بعثها لمكالمات بسيطة. وكان بولز قد تخلص من هاتفه لكي يتمكن من الاشتغال في هدوء. فأصبحت الطريقة الوحيدة لرؤيته هي أن تطرق بابه. من الخامسة تقريبا حتى السابعة، بعد ظهر كل يوم، كان بول يتواجد “ببيته” ليستقبل سيلا من الزوار الشباب الذين سافروا إلى طنجة للقائه.

مدينة الفنانين العريقة

لقد كان حضورا مكثفا للكتاب الأجانب بفضاءات طنجة ومزاراتها وعوالمها الغامضة، منهم هيرمان ملفيل، ومارك توين، وغيرترود شتاين، وصموئيل بيكيت، وجان جينيه، وتينيسي وليامز، وجون هوبكنز، والرسام ماتيس والمخرج الإيطالي بيرتولوتشي، وقد أجابت الكاتبة الراحلة الطنجوية راشيل مويال، بالنفي عن سؤال عما إذا كان الكتاب الأميركيون ينظرون بازدراء إلى السكان المحليين، وضربت مثال محمد شكري مع بول بولز، حيث قالت “لو لا بولز لما كان شكري كاتبا معروفا اليوم”.

وتعتبر راشيل التي توفيت مؤخرا، من رموز مدينة طنجة الثقافية، ويذكر الناقد خليل الدامون أنه لن ينسى صورتها وهي تبكي على صديقها الرّاحل محمد شكري الذي لم تستسغ أنّها ستفارقه يوما من الأيّام.

ورغم المآل السيء الذي عرفته العلاقة بين بول بولز ومحمد شكري، جعل هذا الأخير يعترف بأنه “لا أشعر أنني متأثر جدا ببول بولز أو بأدبه. إنني متأثر باحترافيته، أي باتخاذه الكتابة حرفة، ومتأثر برغبته القصوى في بلوغ الكمال في شأن عملية الكتابة. لا شيء في حياة بولز أهم من الكتابة”.

يعد الكاتب والموسيقي الأميركي بول بولز نزيل طنجة من نواح عدة باني أسطورة شكري، وسيلعب دورا حاسما في النقلة المرغوبة والموعودة من الاحتفالية والتبرج والفتوة الطنجاوية إلى نموذج آخر رغب فيه بتحسين وضعه وصورته مع نفسه ومجتمعه.

بول بولز كما أكد أحمد المديني في مؤلفه الجديد “السرد بين الكتابة والأهواء”، المتخصص في جمع تراث محكيات طنجة وميراثها الشفوي، هو من كتب سيرة شكري الأولى بالإنجليزية تلقاها شفويا من راويها وصاغها وشذبها ونظمها. ارتبط اسم الكاتب محمد شكري بطنجة قبل وبعد شهرته، وكان مقره الأثير بمقهى سنترال بالسوق الداخل، عندما تحدث عنه مواطنه الناقد والكاتب أحمد المديني، ساردا، أنه يجلس في ركن المقهى يعرفه الداخل بطاولة فوقها عمود من الكتب مصفوفة فوق بعضها، وهو مستغرق في قراءته وأمامه كأس شاي على الطريقة الطنجاوية.

وعلى امتداد السبعينات ظل محمد شكري ملتقى العديد من الشخصيات تفد إلى طنجة، مغربية وكتابا مشاهير، خاصة جان جيني، وميلر، وسيكتب لاحقا مشاهدات وذكريات معهما، ويصفه بأنه كان منسجما ويرتاح لمرافقة هذا الصنف من الوافدين ممن يبحث عن أحشاء المدينة وعالمها السفلي حيث تمارس النزوات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: