“كورونافوبياً” تطاردنا في المنام واليقظة

تعتقد الحكومات أن بقاء المواطنين في منازلهم كفيل بتجنيبهم الإصابة بوباء كورونا، أو على الأقل خفض المخاطر وتقليل انتشار المرض. وهو افتراض واقعي وصحيح، لكن لا أعلم هل أدرجت الدول في حساباتها الأمراض الناجمة عن عدم الخروج والهلع من الفايروس، ربما تجاهلتها في زحمة المقاومة، على اعتبار أنها غير عضوية وأخف وطأة.

يلمس قطاع كبير ممن أدمنوا الحجر والعزل والحظر وتعايشوا مع طقوسهم، أن المسألة جد خطيرة، وتكفي “الهلاوس” أو الأحلام التي تراود الكثير منا، ولم تعد قاصرة على المنام، بل تطاردنا في اليقظة أيضا، وتتجاوز عملية النظافة وإتقان غسل اليدين. وحول ذلك أفاض خبراء وعلماء ومتخصصون، غير أن تجاربنا الشخصية تكشف لنا المزيد.

وجدت طفلتي الصغيرة (عشر سنوات) تضع كوبا من الماء قبل النوم بجوارها على غير العادة، سألتها عن السبب، فقالت كي تشرب منه لأنها تستيقظ كثيرا أثناء النوم منذ أن فرض حظر التجوال وأغلقت المدارس في مصر وتشرب منه كي لا ينضب اللعاب في فمها، ثم لاحظت أنها تستيقظ كل يوم وتحكي حلما يتعلق بإصابتها أو أحد أفراد الأسرة بكورونا.

فشلت عملية الاحتواء التي قمت بها، وسيطرت فكرة المرض على كل حواسها، وما أخفيته عنها أنني أشد خوفا منها، ينتابني شعور لا يقل حدة خاص بنضوب اللعاب في المنام واليقظة، أتغلب عليه بالتأكد من وجوده بكمية مناسبة في فمي، ثم أجري اختبارات تقليدية خاصة بالمرض، تتعلق بعدم وجود كحة بعد غلق الأنف، وانتفاء الألم في الرئتين، وما إلى ذلك من إرشادات مسرفة نقرأها ونشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي.

تجاوزنا مرحلة الخوف المعروف الذي يصاحب الأمراض المعدية ودخلنا مرحلة ما بعد “كورونافوبيا”، على طريقة “الهلاوس” وما يصاحبها من تصورات وتخيلات مؤلمة، قد تفوق المرض نفسه

اعتدنا التأقلم على البقاء في المنزل، وكل فرد يكيف أوضاعه المعيشية حسب ظروفه، وكثيرا ما نضطر إلى الخروج لقضاء حاجات منزلية معينة، وبعد أن كان بعضنا يستمتع بهواية الشراء من السوبر ماركت أصبح الذهاب إليه أمرا مفزعا خوفا من العدوى، وللوقاية نتخذ احتياطيات صارمة، أهمها الكمامة وغطاء اليد والاحتفاظ بالمطهرات والتباعد.

تبدو “الهلاوس” المصاحبة للخروج أخف ألما من العودة. في الأولى نتخذ مجموعة من الخطوات الاحترازية المنطقية، بينما في الثانية قد يلحق بنا المرض دون أن ندري، ففي ظل المعلومات المتدفقة حول طريقة العدوى، بدءا من الهواء والأسطح والمصافحة والعطس والسعال وحتى الملابس، أصبح الأمر مزعجا حقا.

مع العودة إلى المنزل تأخذ رحلة أخرى مع المشتريات في مسارها، خشية التصاق فايروس أو أكثر بها، نقوم بتنظيفها جميعا بالمواد المطهرة، وأحيانا يتم وضعها في ماء ساخن جدا، ربما يصل إلى الغليان، قبل كل ذلك يتم وضع ملابس الخروج في الغسالة، وتظل “الهلاوس” تلاحقنا بلا انقطاع تحسبا من نجاح كورونا في الهروب من الحصار.

قبل يومين خجلت من ابن شقيقتي القادم من مدينة مجاورة  ويريد زيارتي في المنزل ، وانتبهت فجأة إلى أن طفلتي تصغي للمحادثة الهاتفية وتنتظر الإجابة عليه كيف ستكون، لم ألتفت إليها جيدا إلا وأنا أعتذر عن عدم استقباله في هذه الأيام، فقد خشيت أن يحطم كل خطواتي الانعزالية ويكون حاملا للفايروس دون أن يدري، وأتسبب في إصابة أسرتي.

تحيط بنا سلسلة طويلة من الخيالات اللامحدودة، لا نعرف طريقة محددة للتغلب عليها، ولأن المرض اللعين لم يتم اكتشاف المعلومات الكافية والدقيقة عنه تحولنا إلى ضحايا لا مواطنين أو حتى رعايا. نمتنع عن الخروج ولا نضمن النجاة تماما، فكورونا يمكن أن يصل إلينا مهما بالغنا في الحذر والتريث، أحيانا أتصور أنه يمكن أن يتسلل خلسة ويلاحقني من أسفل باب المنزل، أو بمجرد فتح النافذة.

كورونا قد يسبب ضررا نفسيا للأطفال 

تجاوزنا مرحلة الخوف المعروف الذي يصاحب الأمراض المعدية ودخلنا مرحلة ما بعد “كورونافوبيا”، على طريقة “الهلاوس” وما يصاحبها من تصورات وتخيلات مؤلمة، قد تفوق المرض نفسه، وهو ما يتطلب الاستعداد لدخول البعض مصحات علاجية بعد انتهاء الأزمة، أو التعرض لنوبات نفسية وارتباكات أسرية، والاستسلام لهذه الحالة المرضية.
يرمي التوقف عند هذا الجانب إلى التفكير بصوت مرتفع في البحث عن حلول مناسبة لنا، كل حسب حالته الاجتماعية والاقتصادية، فالبعض يلجأ إلى مزيد من العمل والقراءة وقضاء وقت طويل في أشياء مفيدة أو مشاهدة التلفاز، والبعض يلوذ بمواقع التواصل بكل ما تحويه من تناقضات كفيلة بترسيخ “الهلاوس” في وجدانهم.

يتبع كل فرد السبيل الذي يتواءم مع حياته وضوابطها، ثم نكتشف أن الانشغال الدائم بكل ما هو مفيد قد يكون مضرا، بمعنى أن الإنسان سيصاب بعد وقت بالضجر وسط الحصار الذي يلاحقه، وعندما لا يجد ما يعينه على كسره وتجاوزه تلاحقه “الهلاوس”، فكم من الأصحاء والطيبين والشباب والصغار والنساء وطواقم التمريض أصيبوا بالوباء دون سبب مفهوم.

تشير الأوضاع التي نعيشها إلى ارتفاع الضغوط الشخصية، مع ذلك نحاول اختلاس الضحكات، ونترحم على ليالي السمر التي قضيناها. بالأمس ذكرني صديق بلقاء قبل فرض الحظر بيومين، كنا نتحاور ونتناقش في قضايا جادة وهزلية ولم نفطن إلى ما ينتظر البشرية، وهو يقول ليت هذه الأيام تعود إلينا، سألته وهل نحن سنكون قادرين على العودة إليها؟ جاءت إجابته محملة بعقدة كوفيد – 19 وما خلفه من تهويمات بداخلنا، وقرر الإقلاع عن كثير من العادات السلبية التي كان يمارسها في مثل هذه الجلسات حماية لصحته، ورغبة في الاحتفاظ بدرجة عالية من قوة المناعة كي يتمكن جسمه من مقاومة فايروسات ما بعد كورونا.

تحرمنا “الهلاوس” المفرطة من أنماط كانت تمثل لنا مصدر البهجة، فهذا الصديق له عبارة شهيرة كان يرددها عندما تتصل به زوجته وتطلب عودته إلى المنزل لسبب ما، تقول العبارة “لو بطلنا نجلس على المقهى نموت”، مع كورونا قرر التخلي عن هذا الشعار، أو بمعنى قرر الانتحار ببطء، لأن المقهى أو الحانة وسيلة ترفيه لقطاع كبير من الناس.

قد يكون من المبكر الحكم على أحوالنا مستقبلا، وما نعاني منه وليد اللحظة الراهنة بتعقيداتها الإنسانية، والخزعبلات التي تنتابنا ليلا ونهارا مؤقتة وتزول حتما، وتتعلق بطبيعة الأزمة التي نمر بها، وتشبه معاناة شخص ما أجرى عملية قلب مفتوح قرر التوقف عن الممارسات السيئة المتعلقة بالتدخين وأدت إلى مرضه، وعندما يسترد صحته يستأنف عاداته السابقة.

ينطبق هذا التقدير في الحالات الفردية الناجمة عن سلوك شخصي، لكن إذا كانت عامة ولا أحد يعرف من أين ستأتي الضربة المقبلة فالأمر يبدو مختلفا. العالم يعاني من ويلات كورونا المستجد في الحاضر، وهناك تحذيرات من عدم استبعاد تحوره إلى سلسلة أخرى من الفايروسات الأشد فتكا لاحقا.

من هنا تصبح القضية دقيقة، وتجعل “الهلاوس” التي تلازمنا الآن تتخطى فكرة أنها ناجمة عن العزلة المطبقة، وتتحول إلى هواجس تطغى على تصرفاتنا ليكون كورونا مدخلا لمزيد من الأمراض النفسية التي يحتاج التغلب عليها إلى أجيال جديدة لم تعش هذه التجربة المريرة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: