أوروبا تنظر بقلق إلى هزات الشرق الأوسط

تحاول أوروبا المحاصرة بانتقادات داخلية لاذعة لكونها باتت أشبه بمتفرج على ما يحصل في العالم من تطورات أن تعيد ترتيب الأوراق وأن تثبّت أقدامها كقوة وزانة عبر دخولها على خط الأزمة الإيرانية الأميركية باحثة عن مخارج لأزمة قد تقود العالم إلى حرب جديدة. وتقود ترويكا تشكلها كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا جهودا كبرى لتجنب حدوث صدام كبير بين واشنطن وطهران قد يربك مصالحها في الشرق الأوسط.

قالت مصادر مقربة من وزارة الخارجية الفرنسية إن دول الاتحاد الأوروبي شديدة القلق من انفلات الأمر في الشرق الأوسط، وإنها تعمل جديا على بذل جهود مكثفة لدى إيران والولايات المتحدة، لنزع فتيل الانفجار الذي قد تسببه الأزمة المتصاعدة منذ إقدام واشنطن على قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني.

وأضافت المصادر أن العاصمة الفرنسية تسعى في الوقت عينه إلى تنسيق المواقف الأوروبية باتجاه ما يجنب العالم حربا جديدة وأزمة طاقة كبرى.

ورصد المراقبون بعد صدور بيان فرنسي ألماني بريطاني مشترك، الاثنين، يدعو إلى خفض التصعيد، توجها أوروبيا لتجنب حدوث صدام كبير أميركي إيراني، ليس من خلال موقف وسطي رمادي على منوال ذلك الذي ظهر إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، بل من خلال إجماع على إظهار الدعم للحليف الأميركي، وتفهم خطوته باغتيال سليماني والتذكير بما كان يشكله سليماني من أخطار مزعزعة للاستقرار في العالم.

ويقول مصدر دبلوماسي مراقب إن وضوح الموقف الأوروبي لجهة الانحياز الحاسم لجانب الولايات المتحدة يرسل إشارات إلى إيران بعدم اللجوء إلى التصعيد العسكري والهروب نحو حرب كبرى ضد الولايات المتحدة، كما يبلغ طهران بأن المواقف السياسية الأوروبية ستتحول إلى مواقف عسكرية داعمة للشريك الأميركي، وأن دول أوروبا الكبرى ستكون شريكا داخل أيّ تحالف دولي سيتم تشكيله ضد إيران في حال بات السلوك الإيراني مهددا للسلام في العالم ومهددا للملاحة الدولية في مضيق هرمز ويكون بذلك مهددا لسوق الطاقة العالمي.

ويأتي البيان الثلاثي كأول موقف موحد في أعقاب اغتيال سليماني، الذي قُتل في غارة أميركية. وأعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن قلقهم إزاء “الدور السلبي الذي تلعبه إيران في المنطقة، خصوصا من خلال فيلق القدس الذي كان يقوده الجنرال سليماني “وطلب الزعماء الثلاث من الطرفين، الإيراني والأميركي، التصرف بضبط النفس والمسؤولية “.

وتكشف بعض المعلومات في باريس عن أن فرنسا كما ألمانيا كثفت تواصلها مع واشنطن وطهران، وأن الجانب الإيراني يتبادل الأفكار مع الأوروبيين حول السبل الأنجع للخروج من الأزمة.

وقالت المعلومات إن طهران نفسها تتبادل الرسائل مع واشنطن من خلال سويسرا التي ترعى المصالح الأميركية في إيران. ولم تستبعد بعض المصادر توصل الطرفين إلى صيغة تشمل ردا إيرانيا على اغتيال سليماني على أن يكون جزءا من خريطة طريق تؤدي إلى المفاوضات.

بيان ثلاثي أصدرته فرنسا وألمانيا وبريطانيا يعتبر أول موقف موحد في أعقاب اغتيال سليماني

ولفت باحثون إلى تصريحات أطلقتها طهران، الأحد، حول أنها تخلت عن التزاماتها في الاتفاق النووي مشترطة رفع الولايات المتحدة لعقوباتها الاقتصادية عن إيران للعودة للالتزام ببنود الاتفاق. ورأى هؤلاء أن هذه المواقف تكشف أن طهران مستعدة لتجاوز مسألة اغتيال شخصية إيرانية كبرى بحجم سليماني إذا ما فعّلت العواصم الأوروبية ضغوطها وجهودها باتجاه رفع العقوبات الأميركية.

والظاهر أن الدينامية الأوروبية تستند على دور الترويكا الأوروبية الموقعة على اتفاق فيينا عام 2015 لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عملية اغتيال سليماني، أي إلى مرحلة الدفاع عن الاتفاق النووي، بما في ذلك الضغط من أجل التزام طهران ببنوده وبشروطه.

في المقابل فإن بيان الترويكا يعتبر تفاوضا مع الطرف الإيراني بشأن شروطه التي أعاد الإعلان عنها لعدم خفض التزاماته والعودة إلى حضن الاتفاق.

فلقد دعت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إيران مرة أخرى إلى احترام الاتفاق. وقال البيان “ندعو إيران على وجه الخصوص إلى الامتناع عن أيّ أعمال عنف، ونحثها على العودة إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة”.

واعتبر مراقبون أن الأوروبيين يبدون قلقا من عودة النشاط إلى التنظيمات الإرهابية، وخصوصا تنظيم داعش، بسبب ما يمكن أن يجره الصدام الأميركي الإيراني من فوضى وما يشكله من عبث سيمكّن التنظيم من العودة إلى نشاطه السابق.

ويضيف هؤلاء أن أوروبا تنظر بعين القلق للتطور الذي ظهر الأحد في بغداد من خلال تصويت البرلمان العراقي لصالح قرار يدعو الحكومة إلى إخراج القوات الأجنبية من البلاد، لاسيما أن مهمة هذه القوات، وخصوصا الأميركية المتواجدة في العراق كجزء من تحالف دولي ضد داعش، وأن أيّ نيل من هذا الحضور الدولي سيسدد ضربة مؤلمة إلى الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، خصوصا وأن قرار البرلمان العراقي جاء انفعاليا لا يأخذ بعين الاعتبار المقاربة العسكرية التي لا يمكن التعامل معها على نحو ارتجالي مباغت.

وقد عبر  القادة الأوروبيون الثلاثة عن الأمر حين شددوا على أن المعركة ضد داعش في الشرق الأوسط يجب ألاّ تتأثر بتصعيد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران. ولفت المراقبون إلى تأكيد بيانهم على مواصلة العمل لمكافحة داعش وهو أمر “لا يزال يمثل أولوية”، وأن مسألة “الحفاظ على التحالف أمر حاسم في سبيل تحقيق ذلك”.

وكانت مصادر دبلوماسية أوروبية قد أبدت دهشة من انقلاب الموقف الألماني لصالح الولايات المتحدة من حيث التأكيد على دعم الحليف الأميركي وتبرير قيام واشنطن باغتيال سليماني. ويأتي موقف برلين مختلفا عن أداء سابق لطالما كان متحيزا لطهران وحريصا على تطوير علاقات معها.

المواقف السياسية الأوروبية قد تتحول إلى مواقف عسكرية داعمة للشريك الأميركي على حساب إيران

غير أن محللين قالوا إن موقف ألمانيا قد انقلب ليس فقط في الموضوع الإيراني، بل إن ميركل، وعلى الرغم من البرودة في علاقاتها مع شخص الرئيس الأميركي دونالد ترامب، انحازت إلى موقف واشنطن حين قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوصف حلف الناتو بأنه يعاني من “موت دماغي”، كما أن الموقف الألماني الاستراتيجي ما زال يعتبر أن أمن ألمانيا متعلق بالمظلة الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة وغير مهتمة بالجيش الأوروبي الذي يدعو إليه ماكرون.

ومع ذلك تسعى برلين للعب دور أكثر حيوية في تدوير زوايا الموقف الأميركي في المنطقة. فقد حذر وزير الخارجية الألماني هيكو ماس، الاثنين، من أن تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمعاقبة العراق “لا تساعد كثيرا”. وقال ماس في مقابلة مع الإذاعة الألمانية دويتشلاندفونك “لا أعتقد أننا قادرون على إقناع العراق بتهديدات بل بالحجج.”

وقال ماس إن ألمانيا شريك للعراق وأنها  تشارك بشكل كبير، ليس فقط عسكريا  ولكن أيضًا في المساعدة من أجل الاستقرار، من أجل إعادة بناء هذا البلد لإنشاء البنى التحتية”.

ويخشى وزير الخارجية الألماني من أن انفلات الأمور وتحول العراق إلى ساحة نزاع أميركي إيراني قد يضيع كل الجهود التي تعمل عليها بلاده وأوروبا في هذا الشأن.

ويرى مراقبون أن أوروبا عادت لتكون خشبة خلاص محتملة لإيران والولايات المتحدة للخروج من هذه الأزمة بخسائر محدودة. ويلفت هؤلاء إلى أن الترويكا الأوروبية تعمل بالتنسيق مع روسيا والصين بما يجعل من جهودها محصنة برعاية دول تعتبرها إيران حليفة لها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: