شكيب بنموسى دبلوماسي مغربي يقود ورش المستقبل

من ميزات الديمقراطية المغربية تدبير الصراع سلميا بين الفرقاء السياسيين، كونها وسيلة مثلى لتمرير المشاريع والأجندات، وفرصة للتعبير عن الاختلاف. ومن هنا يأتي اختيار لجنة سيكون لها اختصاص إصدار توصيات ستساعد صاحب القرار للبتّ في نموذج تنموي بديل. وليس بالضرورة أن تحظى بإجماع مطلق بل الحيوية والفعالية تكمن في الإفادة من توجهات الانتقادات بخصوص طبيعة شخصيات اللجنة ومعايير اختيارها لتساهم في إنتاج النموذج.

ولذلك، وبعد إعلان العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطاب رسمي عن فشل النموذج التنموي الحالي والعزم الأكيد على تكليف لجنة خاصة من كفاءات مغربية للانكباب على إعداد نموذج جديد يستجيب لمتطلبات المرحلة الحالية على كافة المستويات، تم استقدام سفير المملكة بباريس شكيب بنموسى وتعيينه رئيسا للجنة واختيار المجموعة التي ستسطر ما يحتاجه هذا المشروع من الألف إلى الياء.

دشنت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، أعمالها الاثنين الـ16 من ديسمبر الجاري، بمقر أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، ويرغب أعضاؤها خلال مدة مهامها، بالمساهمة في إرساء “نقاش عام وتشاركي”، يستند على مصاحبة وسائل الإعلام، بكل أشكالها وتعبيراتها، في مناخ من “الشفافية والانفتاح”، ولهذا تم إنشاء قطب للتواصل داخل اللجنة لتدبير العلاقات مع وسائل الإعلام والاستماع إلى الرأي العام المعبّر عنه عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

من الأمور الأساسية للتمييز بين الأدوار التي قام بها بنموسى كتكنوقراطي ورجل دولة هي طريقة تعاطيه مع القيود المؤسسية والإكراهات المجتمعية والاقتصادية وكذلك السياق السياسي الذي يتم فيه الاشتغال على مثل هذا المشروع أساسا، لذا أفرزت لنا الساحة فئة من المعلقين تقول بأن اللجنة التي يترأسها شكيب بنموسى، يعوزها الفهم العميق للميدان والشعب الذي ستنتج لأجله توصيات نموذجه التنموي، ويؤكد هؤلاء أن نخبة مهندسي مدرسة القناطر نموذج يجب استبداله لأنهم لا يمثلون نبوغا مهما. فيما ثمنت فئة ثانية من المحللين والخبراء في السياسة والاقتصاد، هذا الاختيار واعتبرت أن طبيعة الملفات التي ستنكب عليها اللجنة هو المحدد الأساسي لهذا التوجه حتى لا يتم تقويضه من البداية.

مهام محددة

العاهل المغربي الملك محمد السادس لم يتردد في الإعلان وبشجاعة عن فشل النموذج التنموي الحالي، وتكليف لجنة خاصة من كفاءات مغربية للانكباب على إعداد نموذج جديد

نظرا للعديد من المهمات التي اضطلع بها، اعتبر البعض شكيب بنموسى شخصية مستهلكة كان لا بد من استبدالها بكفاءة أخرى، في تقدير آخر يوصف الرجل بالعقلاني وهذا سيضفي على مهمته جانبا أساسيا من شخصيته، ولهذا اعتبر الخبير الاقتصادي إدريس الفينا، قرار تعيين بنموسى، رئيسا للجنة إعداد نموذج تنموي جديد، يعكس طبيعة التحديات المعقدة التي تواجه المغرب اليوم.

هو خرّيج المدرسة الوطنية للقناطر والطرقات بباريس، انتقل من وزارة الداخلية، التي اشتغل فيها بين 2006 و2010، إلى المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي متوجها إلى سفارة المغرب بفرنسا في العام 2013، فمنذ ست سنوات وشكيب بنموسى على رأس سفارة بمقاييس وزارة نظرا للعلاقات الاستراتيجية التي تجمع الرباط بباريس على مدى عقود من الزمن.

سبق لبنموسى وأن ترأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أعد تقارير مهمة تميزت بالجرأة في انتقاد السياسيات العمومية، خصوصا في شقها التنموي، كما عمل شكيب بنموسى من نفس المنصب على وضع اللبنات الأولى للنموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية. ولهذا قد تعمل الاستشارات التي ستوفرها اللجنة التي يرأسها حاليا كجزء من نظام الضوابط والتوازنات المؤسسية التي تحافظ على النظام القيمي وخصوصيات المجتمع المغربي والوقوف على ما يتطلع إليه في وضع عالمي متحول ومتغير.

هناك من يلقي على بنموسى مسؤولية فشل النموذج القديم في تحقيق أهدافه، كونه كان مسؤولا حكوميا وداخل بعض المؤسسات التي لها احتكاك ميداني بمشاكل الناس اليومية.

شكوك منطقية عبّر عنها أكثر من باحث حول عدد من اللجان لم تتمكن من تنزيل توصياتها أو على أقل تقدير لهذا عبّر كريم التازي عضو اللجنة لشكيب بنموسى عن مخاوفه، متسائلا هل سيساهم هذا العمل بشيء، أم أننا سنضيف تقريرا إلى قائمة التقارير الموجودة مثل تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

مواصفات خاصة

في المقابل يرى الكثير من المتابعين للشأن المغربي أن مثل هذه اللجنة تعتبر آليّة فعالة لبسط مختلف الخيارات إذا استثمرت المعطيات والمعلومات حول طبيعة المواضيع التي سيشتغل عليها أعضاؤها، وتوسيع مروحة الاستشارات بما يفيد بناء هيكل متماسك من التوصيات يستطيع صاحب القرار الاستئناس به في إخراج نموذج تنموي مغربي يستجيب لتطلعات المرحلة.

ومن يعرف كيف يشتغل بنموسى، يعلم أنه لن يخلّ أبدا بالتزاماته داخل حلقات الزمالة التي نشطت أثناء اشتغال ورشات المشاريع الكبرى وفكرة “دابا 2007″، هكذا حلل الموقف أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، مصطفى اليحياوي، ما يعني أن بنموسى استثمر في العناصر التي يعرفها بشكل جيد ويمكن اعتباره انسياقا نحو عدم الشفافية وتكافؤ الفرص، لكن هذا يعني من زاوية أخرى أنها لجنة لها خصوصيتها وليست جمعية عمومية منتخبة.

عرف أعضاء اللجنة الخاصة لبلورة نموذج تنموي جديد بتعدد المشارب والتجارب والخلفيات المعرفية، فهناك من اختبر النظريات الاقتصادية العالمية، ومن تمرس في علم الاجتماع والعلوم السياسية، وتجد في ذات التشكيلة رجل الأعمال والخبير في التكنولوجيات الحديثة وغيرها، وتشمل اللجنة أيضا عناصر احتكت بتجارب خارج المغرب واستطاعت أن تبني لنفسها مسارات عملية وعلمية فذة.

وسيكون لزاما على بنموسى التعاطي مع جلّ الأفكار التي ستبلورها تلك الشخصيات المختارة منها ما ركز عليه عضو اللجنة الاقتصادية نورالدين العوفي، في أن التقليص من الفوارق الاجتماعية كمطلب مهم في النموذج التنموي الجديد، يستدعي “تعديل الأولويات بالاستثمار في الضروري من التنمية بصفة عامة، ومنه الاستثمار في القدرات، والارتقاء بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى مستوى المزاوجة بين الكفاءة الاقتصادية القائمة على الاستثمار المنتج، وبين العدالة الاجتماعية التي تتطلب التمكين من القدرات”.

ويقول متابعون إن من حقنا أن ننتقد الشخصيات التي تضمها هذه اللجنة، فهي تخلو، مثلا، من رجال التعليم والبيداغوجيا، ومن رجال التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية، ومن رجال الأمن في زمن المخاطر، ومن أكاديميين اشتغلوا على التنمية مثل عبدالله ساعف أو الدكتور بوصوف مثلا.. الخ، ولهذا السبب استبق بنموسى مثل هذه الآراء بتأكيده على أن العمل التشاركي لا يعني حسب رأيه البحث عن صيغة لتمثيل الجميع، لكنه يسمح عند إنجازه لأكبر عدد من المغاربة بالانخراط فيه، لذلك لن يكون عملا شبيها بعمل مكاتب الدراسات.

بنموسى يقدم النموذج التنموي الجديد باعتباره يشمل كل مجالات التنمية، فهو نموذج ينظر في إنتاج الثروة وإنتاج الشغل، وإنتاج القيمة المضافة، عن طريق المبادرة والمغامرة والإبداع، والعناية بالرأسمال اللامادي، من خدمات اجتماعية وتوزيع للثروة، وتربية وصحة وتشغيل ونقل، مع بحث آليات توزيع الثروة، لتحقيق عدالة اجتماعية

إلى جانب تمثيلية العنصر النسوي في اللجنة التي تعكس الدور الهام الذي ما فتئت تضطلع به المرأة المغربية في مجموعة من المجالات ذات الصلة بمسلسل التنمية في شتى أبعاده، يشتغل على هذا المشروع، أشخاص تم اختيارهم انطلاقا من مسارهم الأكاديمي، وانخراطهم الاجتماعي، لكن فلسفة اللجنة كما يراها بنموسى تتحرك من خلال مقاربة الذهاب للقاء الطاقات التي يمكن أن تساهم في البحث عن حلول، وإن كانت قد ابتعدت عن قضايا الشأن العام.

تشكيلة لجنة النموذج التنموي الجديد غلب عليها الطابع التقني المرتبط بالمجال الاقتصادي في شقيه النظري والعملي، وقد تمنى عضو اللجنة كريم التازي لو كان تمثيل جمعيات حقوق الإنسان ومحاربة الرشوة حاضرا بقوة، مستدركا أنه سيبذل ما في جهده لإسماع صوتها. وقد استغرب الكثير من ورود اسم التازي ضمن أعضاء لجنة رسمية، على اعتبار أنه كان معارضا عدميا، لكن حسم موافقته بالانضمام إلى هذه اللجنة لاعتبارين “مصداقية” رئيس اللجنة بنموسى و”خطاب الملك”.

وعندما نستحضر تعليقات المختصين بخصوص لجنة تقويم النموذج التنموي نجد الخبير الاقتصادي إدريس الفينا، يعلق بالقول “اللجنة لها مهمة استراتيجية تتمثل في تحديد نوع الإصلاحات التي يجب إدراجها لتقويم النموذج التنموي الحالي ليصبح أكثر فاعلية”.

والسؤال هنا هل يمكن أن يشتغل أعضاء هذه اللجنة بالمجان دون تعويضات؟ هذا ما طرحه عدد من النشطاء وأكدوا على مبالغ تقدر بـ50 مليونا للعضو الواحد، بمن فيهم الرئيس، لكن بنموسى شدد بقوة على أنها مجرد إشاعات وأن الأعضاء، وهو من ضمنهم، سيعملون بشكل تطوعي ولن تكون لديهم لا أجور ولا تعويضات ولا “تراكم للتعويضات”، وهناك من اعتبر ما يتم ترويجه شيطنة للجنة قبل البدء في أشغالها وتبخيس لأيّ مبادرة قد تحقق الأهداف المرجوة منها.

وحتى تطمئن فئة عريضة من المتابعين، شدد بنموسى على أن أعضاء اللجنة على دراية واسعة بالمجتمع المغربي وبالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وسترفع اللجنة تقريرها النهائي إلى أنظار العاهل المغربي مع نهاية شهر يونيو 2020، بالإضافة إلى التقارير المرحلية التي تتيح إمكانية تقييم التقدم في إنجاز المهام المنوطة باللجنة.

ماذا يرى السياسيون

البعض يعتبر بنموسى شخصية مستهلكة كان لا بد من استبدالها بكفاءة أخرى، وفي تقدير آخر يوصف الرجل بالعقلاني، وهذا سيضفي على مهمته جانبا أساسيا من شخصيته

مواكبة التحولات الهيكلية التي يشهدها السياق الوطني والدولي، جعلت من المغرب يقرر مراجعة نموذجه التنموي، وفي بسط الحجة مع المخالف يقدم بنموسى النموذج التنموي الجديد، باعتباره يشمل كل مجالات التنمية فهو نموذج ينظر في إنتاج الثروة وإنتاج الشغل وإنتاج القيمة المضافة عن طريق المبادرة والمغامرة والإبداع والعناية بالرأسمال اللامادي، من خدمات اجتماعية وتوزيع للثروة وتربية وصحة وتشغيل ونقل، مع بحث آليات توزيع الثروة لتحقيق عدالة اجتماعية.

وهو نموذج يقول عنه رئيس اللجنة، يبحث عن اللحمة الاجتماعية التي قوامها رأسمال الثقة، التي بإمكانها أن تحرر الطاقات لكي تعمل من أجل تحقيق أهداف التنمية، وأيضا هو نموذج مستدام يفكر في التغيير المناخي وقلة الماء والطاقة، وصحة المواطنين وتلوث الهواء وجودة التغذية، ويسائل الحكامة على المستوى الوطني والدولي، لكي نصل إلى نوع من التعاقد الاجتماعي الذي يسمح بالعمل على المستقبل. عندما نقول إن النموذج التنموي، كما جاء في الخطاب الملكي، يحتاح إلى تحسين ومراجعة، فلأن العديد من المؤشرات أظهرت أن هناك مشاكل يطرحها. وعندما نقول إن ذلك النموذج أصبح يرسل إشارات سلبية، بل مقلقة، فإن ذلك لا يعني أنه يجب أن نتخلى عن النموذج القائم. لأن ذلك غير ممكن حسبما يرى الاقتصادي إدريس الفينا، لذا فكل ما يمكن القيام به حاليا هو إدخال التعديلات الفعالة على عدة مستويات لرفع فعالية النموذج القائم من خلال تحسين خلق الثروة وتوزيعها بين الطبقات الاجتماعية ومجاليا بشكل أكثر عدالة.

غالبًا ما يُنظر إلى رأي السياسي بتوجس نظرا إلى بحثه عن منفعة آنية غارقة في البراغماتية ولا تستشرف المقبل من الظروف والمتغيرات، لكن هذا لا يلغي الإفادة من موقعه وأدواره داخل المجتمع والمؤسسات. وقد اختلفت آراء السياسيين حول لجنة النموذج التنموي حسب المصلحة والعقيدة، ومن الآراء المتطرفة ما قاله الأمين العام السابق للعدالة والتنمية، عبدالإله بنكيران الذي أكد أن اللجنة لم ترقه، وأن أعضاءها لا يمثلون المغاربة عقديا. موضحاً أنها تضم أشخاصا من تيار واحد، ولا يُوجد فيها توازن، وأنها “تضم أشخاصاً متخصصين في التشكيك في الدين الإسلامي”، وهذا رأي انطباعي في بعضه وسياسي في جُلِّهِ حيث لم يقدم بديلا مقنعا ما جعل المتابعين يستهجنون تصريحه.

وقد نبه الأمين العام لحزب الاستقلال إلى أن تراجع السياسي قد يكون أحد معطلات النموذج التنموي الحالي، بعد أن كان محركا وسندا أساسيا في التنمية، كما هو الشأن خلال تجربة الإصلاح الدستوري والانتقال الديمقراطي والتناوب التوافقي والمصالحات الكبرى.

وبشكل عملي قدم الأمين العام لحزب التقدّم والاشتراكية المعارض، نبيل بنعبدالله، وجهة نظره داعيا إلى ضرورة استدماجه الخلاق للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والقيمية والثقافية، وإلى وجوب قيامه على خمسةِ مرتكزاتٍ رَئِيسَة هي: جعلُ الإنسان في قلب العملية التنموية، ونموٌّ اقتصادي سريع ومطّرد، وتحسينُ الحكامةِ وضمانُ مناخٍ مناسب، والبعد القيمي والثقافي والمجتمعي، ثم أساسا الديمقراطية لحمل النموذج التنموي.

لا شك أن النهوض بالمغرب يمر من خلال توفير البنية التحتية والاستثمار المنتج في التصنيع بشكل كبير والتقليص من الفوارق الفئوية والمجالية عبر التوزيع العادل للثروة، وهذا ما يؤمن به بعض المنتمين إلى لجنة النموذج التنموي، والسؤال هو ماذا سيقدم السياسي كعنصر أساسي في التشريع من خلال مجلس النواب والتنفيذ داخل الحكومة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: