بريكست أميركي يهدد بأفول نجم “أعظم قوة”

مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، في خضم الجدل الذي أثاره استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، كثر التنظير لمرحلة ما بعد النظام العالمي الليبرالي مع اتساع هوة الشعبوية والقومية والحمائية التجارية في أبرز الدول المؤسسة لهذا النظام الذي يبدو أنه يحمل في نفسه بذور فنائه بعد أن أصبح مستهدفا من قبل مهندسيه لا من القوى السلطوية. ويبذل ترامب قصارى جهده لتقويض التحالفات التي ضمنت في السابق القوة والنفوذ الأميركيين، في الوقت الذي يتقرب فيه من الأنظمة المتسلطة وأنظمة حكم الأثرياء في مختلف أنحاء العالم.

في غشت من سنة 2016، نشر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدة على تويتر قال فيها بكل فخر “سريعا سينادونني السيد بريكست”. كان ترامب في تلك الفترة مرشحا وفي خضم حملته الانتخابية الرئاسية.

وجاءت هذه التغريدة، بعد شهر من استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (يونيو 2016)، والذي انتهى بتصويت 51.9 بالمئة منهم لفائدة البريكست. وقدم ترامب في ذلك الشهر تحيته إلى البريطانيين الذين “استعادوا بلدهم”. وتكهن ترامب، الذي مازال مرشحا في تلك الفترة، بأن تسلك بلدان أخرى نفس الطريق. وتبعا لمجريات الأمور تبين أن صاحب شعار “أميركا أولا” على صواب.

هدية الانفصال

بدا الرئيس ترامب متحمسا بشكل واضح لحشر نفسه في نقاش بريكست في بريطانيا. فخلال زيارته الرسمية إلى بريطانيا في يوليو الماضي سخر من زعيم المعارضة “الذي يريد علاقة وثيقة مع الاتحاد الأوروبي بعد بريكست وإن لم يقدر على تحقيق ذلك يدعو إلى استفتاء ثان حول الخيارات”.

وفي تلك الزيارة التقى ترامب بعدد من المتحمسين للانفصال ومنهم الرجل الذي سيصبح رئيس الوزراء، أي بوريس جونسون المناصر الكبير لبريكست مهما تكن العواقب.

مدح ترامب موقف جونسون بشكل مبالغ فيه واعدا بإمضاء معاهدة تجارية “كبيرة جدا” أو توقيع “الكثير من الاتفاقات الصغرى الرائعة” مع البريطانيين حالما يتخلصون من الاتحاد الأوروبي. ومن يعتقد أنه لا توجد أي خيوط متصلة بين بريكست وذلك العرض السخي فإنه لم ينتبه لحقيقة رئاسة دونالد ترامب.

في بريطانيا، تبقى المشاعر بخصوص الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مشوشة بشكل عميق. وذلك لا يدعو للاستغراب فبريكست دون اتفاق سيمثل إشكالا بطرق يصعب فهمها، إضافة إلى كونه يمثل ضربة موجهة إلى مستويات العيش وله نتيجة أعمق بكثير من مجرد الخوف من العواقب الفورية.

إننا نتحدث عن بريطانيا العظمى، أكبر قوة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين. البلد الذي أطلق الثورة الصناعية. وحكمت بحريّته سابقا الأمواج. وكان يمتلك عددا من المستعمرات والثكنات العسكرية في مختلف أنحاء العالم أكثر من أي بلد آخر في التاريخ.

اليوم، تقف هذه الإمبراطورية على حافة السقوط فيما سينظر إليه في يوم من الأيام على أنه سرداب التاريخ الإمبراطوري. نسخة جونسون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعني قول الوداع لكل شيء مزدهر. لن يكون بريكست مجرد خروج من الاتحاد الأوروبي بل سيكون خروجا من التاريخ على الرغم من كل النوايا والغايات. وسيؤشر إلى نهاية سقوط امتد لقرن. وسيرجع بريطانيا إلى مملكة جزيرة غير ذات أهمية.

الخروج من القرن الأميركي

البريكست البريطاني قد يتسبب في إلحاق ضرر محدود بالاتحاد الأوروبي، لكن البريكست الأميركي قد يطيح بكوكبنا

إلى حد الآن، مازال الخروج وتداعياته أفكارا لم تتجسّد، ويقول البعض إنها قد لا تتجسّد، لكن، دونالد ترامب لن يقبل ذلك. قبل كل شيء، بالرغم من أن لا أحد يفكر فيه بهذه الطريقة فهو بالفعل الداعي لبريكست الأميركي الخاص بنا.

بأسلوب متخبط ومبتدئ (إن جاز لي استخدام هذه الكلمة لرجل كهذا)، هو يريدنا أن نخرج، وليس بالطبع من الاتحاد الأوروبي (بالرغم من أنه ليس من محبي الاتحاد الأوروبي ولا الناتو) بل من كل المنظومة العالمية من التحالفات والاتفاقيات التجارية التي نسجتها واشنطن منذ سنة 1945 لضمان نجاح “القرن الأميركي” من أجل تدعيم موقعها العالمي بصفتها “بريطانيا العظمى” التالية.

في وقت ليس ببعيد، عند تشكل نظام القوة العالمية كانت الولايات المتحدة الشمس التي يدور في فلكها الحلفاء ضمن أحلاف مثل الناتو ومنظمة معاهدة آسيا الجنوبية الشرقية ومنظمة الدول الأميركية.

ونشر الجيش الأميركي عددا غير مسبوق من الثكنات العسكرية في أغلب المناطق من الكرة الأرضية. وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي في سنة 1991 بدت الولايات المتحدة لفترة وجيزة ليس فقط بريطانيا العظمى التالية لكن “آخر بريطانيا عظمى”.

توصل زعماؤها إلى الاعتقاد بأن هذا البلد ترك في وضعية هيمنة فريدة على كوكب الأرض ربما إلى نهاية الزمن. وأصبحت الولايات المتحدة في السنوات التالية تُعرف على أنها “القوة العظمى الوحيدة”، أو بعبارة وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت “البلد الذي لا يمكن الاستغناء عنه”. وبدا أن الولايات المتحدة وجدت نفسها في وضعية لم يعشها أي بلد من قبل بما في ذلك الإمبراطورية الرومانية أو البريطانية.

الآن، بأسلوبه غير الناضج وغير الكفء، يسوّق دونالد ترامب نوعا آخر من “الأوّل” ألا وهو نسخته الفريدة من “أميركا أولا”. كان الشعار العبارة الذي ساعد على رفع ترامب إلى الرئاسة “اجعل أميركا عظيمة من جديد”، وهي نسخة من جملة قديمة مأخوذة من حملة رونالد ريغان الرابحة لسنة 1980. كان له بعد النظر لمحاولة تسجيلها كاسم تجاري بعد بضعة أيام فقط من خسارة ميت رومني السباق نحو الرئاسة أمام باراك أوباما في نوفمبر 2012.

العبارتان أعجبتا كثيرا ما أصبح يسمى “قاعدته”، وهي عبارة عن طاقم مهم في قلب البلاد، وخاصة في المناطق الريفية الأميركية التي شعرت أن الحلم الأميركي انتهى (في بلد تزداد فيه الفوارق الاقتصادية أكثر من أي وقت مضى).

شعر هؤلاء الناس بأن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم لم يعد يسير إلى الأعلى بل إلى الأسفل نحو سرداب العبودية الاقتصادية. كما جرى تحطيم اتحاداتهم العمالية وترحيل وظائفهم إلى أماكن أخرى. وتركت آمالهم وآمال أبنائهم في مصارف المياه.

الخروج الكبير

في بلد مازالت طبقته السياسية القيادية تحتضن أحلاما كبيرة للهيمنة العالمية والثروة إلى حدود لا تقارن، ويشعر سياسيوه (سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين) بأنهم مجبرون على التحدث عن العظمة الأميركية، كانوا (وقد أحس دونالد ترامب بذلك) أول الانحداريين الأميركيين.

بيد أن عددا قليلا في ذلك الوقت ركزوا على الكلمة المفتاح في شعاره، ونقصد الكلمة الأخيرة، ‘من جديد’. ومثلما كتبت في أبريل 2016 بتلك الكلمة تمكن المرشح ترامب من الوصول إليهم، وإن كان ذلك بشكل غريزي، وعبر خطا سيكون مألوفا اليوم لشخص مثل بوريس جونسون في سياق بريطاني.

بهذه الكلمة بدأ في الخروج من القرن الأميركي. ومثلما علقت وقتها، أصبح “أول زعيم أو زعيم محتمل أميركي في العصر الحديث لم يشعر بالحاجة أو الضرورة للتأكيد بأن الولايات المتحدة، القوة العظمى ‘الوحيدة’ على كوكب الأرض، هي بلد ‘استثنائي’، أو بلد ‘لا غنى عنه’، أو حتى بلد ‘عظيم’ بمعنى غير محدود. باختصار أصبح وقتها أول مرشح رئاسي انحداري في أميركا، عازفا نغمة جديدة هنا تماما مثلما سيفعله الداعون إلى بريكست في إنكلترا”.

ومثلما كتبت أيضا وقتها “دونالد ترامب هو بعبارة أخرى أول شخص يخوض برنامجا انتخابيا بصراحة ودون اعتذار يقوم على الانحدار الأميركي”. لقد قال بكل وضوح إن هذا البلد لم يعد “عظيما”، وبفعل ذلك (وبالكلام ضد حروب أميركا الدائمة لهذا القرن) فهم، وبطريقته الغريبة الخاصة به، الإرث الذي تركته مؤسسة واشنطن ما بعد الحرب الباردة له ولبقية البلاد.

بعد كل شيء، إن لم يلاحظ دونالد ترامب بأن شيئا ما كان يسير بشكل خاطئ بالفعل للاحظ واحد غيره. وبصفتها القوة العظمى الوحيدة التي تملك ميزانية عسكرية تركت كل بلد آخر (وحتى مجموعات منها) في الظل، قامت الولايات المتحدة منذ سنة 2001 بغزو بلدين اثنين

وقصفت بالقنابل عددا أكثر بكثير من البلدان بصفة متكررة وخاضت معارك انتشرت عبر جزء كبير من الشرق الأوسط الكبير وأفريقيا. كان القصد من هذه الحروب عند شنها في 2001 (أفغانستان) و2003 (العراق) البرهنة على سطوة الولايات المتحدة على جزء كبير من الكوكب وضمانها. وبعد خمسة عشر عاما، وهو ما يبدو أن دونالد ترامب هو الوحيد الذي فهمه، النتيجة كانت عكسية تماما.

السيد بريكست

Thumbnail

لما شرع دونالد ترامب في حملته الانتخابية لم تكن الولايات المتحدة قد ظفرت بنصر حقيقي في هذا القرن، ولا حتى في أفغانستان حيث بدأ كل شيء. في السنوات التي سبقت دخوله المكتب البيضاوي كانت القوة “الاستثنائية” الحقيقية الوحيدة في العالم قد برهنت على أنها غير قادرة بشكل استثنائي (بطرق لم تكن صحيحة في سنوات الحرب الباردة) على جعل رغباتها وإرادتها محسوسة في أي مكان، ما عدا كونها قوة لنشر الفوضى والنزوح.

على الصعيد العالمي وبالرغم من كل تحالفاتها وقوتها العسكرية التي لا يوجد لها مثيل ووجودها وحيدة في القمة (حيث بقيت روسيا دولة مسلحة نوويا لكنها أيضا دولة بترولية هشة، وبقيت الصين بكل وضوح صاعدة لكنها لم تصبح “عظمى” بعد) بدت بوضوح مثل قوة عظمى في المراحل الأولى من الانحدار. ومثلما اقترحت حملة دونالد ترامب، وكذلك حملة برني ساندرز في سنة 2016، كان هناك بوضوح نوع من الانحدار الجاري في الوطن أيضا، وهي عملية إفراغ امتدت من الاقتصاد إلى المحاكم إلى المنظومة العسكرية.

ما من شك في أنه في شهر يناير من سنة 2017، في عهد جديد من حكم الأثرياء والانحطاط، دخل ملياردير البيت الأبيض، والحال أن القانون المهم الأول في الشأن الداخلي (بوجود كونغرس جمهوري) الذي سيمرره هو تخفيض في الضرائب أعطى المزيد من الامتيازات للأثرياء الثراء الفاحش. كما لن يكون من المستغرب ولأول مرة بأن يحصل 400 شخص من أغنى الأميركيين على نسبة ضريبة أقل من أي مجموعة دخل أخرى.

وعلى الرغم من أن دونالد ترامب أصر على أنه سيعيد هذا البلد إلى عظمته، برهنت رئاسته على أنها رئاسة ذات نزعة انحدارية بوضوح. ظل دونالد ترامب خلال عهدته الرئاسية يعمل جاهدا من أجل فتح المنظومة الإمبريالية الأميركية مثلما كانت سابقا وتوجيه البلد نحو مستقبل جاهز لمرشحين يحملون قبعات وشعارات أكثر حمرة، وإن كان ذلك تارة بشكل غريزي، وتارة أخرى بشكل فوضوي وطورا بشكل اندفاعي.

إذا كان بوريس جونسون متوجها نحو “بريطانيا آخر لحظة” فإن دونالد ترامب على الرغم من تبجحه يسلك طريقا مماثلا لأعظم قوة على كوكب الأرض

إذا كان بوريس جونسون متوجها نحو ‘بريطانيا آخر لحظة’ فإن دونالد ترامب على الرغم من تبجحه يسلك طريقا مماثلا لأعظم قوة على كوكب الأرض. في حروبه التجارية عزم على فتح المنظومة الاقتصادية العالمية الأميركية سواء في علاقة مع الاتحاد الأوروبي أو الصين أو حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ففي علاقاته مع بلدان كهذه كان يبذل قصارى جهده لتقويض هذه التحالفات التي ضمنت في السابق القوة والنفوذ الأميركيين، حتى في الوقت الذي يتقرب فيه من الأنظمة المتسلطة وأنظمة حكم الأثرياء في مختلف أنحاء العالم.

وعلى الرغم من حروبها الدائمة وحروبها التجارية الجديدة، تظل الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأقوى في العالم، هذا فضلا عن أنها أثرى قوة موجودة في الوقت الحاضر. إذا مهما فعل الرئيس ترامب لسنا على وشك أن ننضم إلى بريطانيا العظمى في ذلك السرداب الإمبريالي في أي وقت قريب. ومع ذلك ومثلما بينت سنوات ترامب في الحكم بوضوح، نحن على الأقل في المراحل المبكرة لبريكست أميركي على المستويين العالمي والداخلي.

عندما ينتهي عهد ترامب، سواء كان ذلك في سنة 2020 أو 2024، أو في أي لحظة لا يمكن التنبؤ بها، علينا أن نعول على ما يلي: سيكون النظام العالمي الأميركي قد تم فتحه وتكون المنظومتان السياسية والقضائية الداخليتان قد تضررتا أكثر، ويكون هذا البلد قد أصبح أكثر تفاوتا في عصر ذهبي لا نظير له، وكذلك سيكون قد انقسم إلى قسمين على الأقل (“حرب أهلية”؟) في ما يتعلق بالشعور الشعبي.

لكن هناك أيضا فرق بين البريكست البريطاني والبريكست الأميركي، فبينما قد يتسبب البريكست البريطاني في إلحاق الضرر بالاتحاد الأوروبي وربما الاقتصاد البريطاني، فإن البريكست الأميركي في ظل حماسنا الفياض قد يطيح بكوكبنا. ونحن بعد كل شيء نعيش في عالم يتجه نحو الانحدار. وهنا فكّر في دونالد ترامب بوصفه رئيس الانحدار أو إن شئت ‘السيد بريكست’.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: