المصريون يحتاجون الإصلاح ويرفضون رحيل السيسي

دبت الحياة في شرايين الحكومة وقيادات الأحزاب والمعارضة في مصر فجأة خلال الأيام الماضية، وكأنهم كانوا ينتظرون من يعيد إليهم الشغف بالمناكفات والتجاذبات والتظاهرات مرة أخرى، ليمعنوا في ما يدور حولهم من تطورات سياسية.

تفاعلت قلة محدودة مع فيديوهات بثتها شخصيات معارضة من داخل وخارج مصر، دون النظر إلى انتماءاتها. فرجل الأعمال والممثل نصف المشهور محمد علي، يُنسبُ له فتح كوة سياسية صعبة، وغير معروف أن له روابط مع جماعة الإخوان، لكنها قفزت على الدور الذي يلعبه انتقاما من الحكومة، وبدا كأنه يؤدي دورا في مسرحية هزلية.

كشفت وسائل إعلام محسوبة على الجماعة عن رغبة عارمة لتحريك الشارع ضد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وقامت بتضخيم العشرات الذين خرجوا مساء الجمعة، والإيحاء بأن هناك ثورة تجتاح البلاد، وأوقعها غرورها في أخطاء قاتلة، أبرزها بث صور لميادين وشوارع تعج بمواطنين من زمن فائت، وزعمت أنهم نزلوا يوم الجمعة الماضي وهتفوا ضد الحكومة.

لم تستفد جماعة الإخوان من فشل التحريض المتواصل من دون مردود شعبي على مدار ست سنوات، ولم تقرأ رسائله، واخترعت الحجة بعد الأخرى لتبرير مواصلة المنهج العقيم الذي تتبعه، وتركت السقف الزمني لتحقيق هدفها مفتوحا عندما أخفقت في الحصول على نتيجة إيجابية من التوقيتات التي ضربتها لكوادرها بشأن العودة إلى الحكم، لتتجنب مساءلة سياسية بدأت تلاحقها في كل مرة حددت فيها موعدا للثورة ولم تحدث.

يحتاج المصريون إلى الإصلاح الآن أكثر من أي وقت مضى، ويرفضون رحيل الرئيس السيسي في أجواء ملبدة بغيوم الإخوان

أعادت جماعة الإخوان والمتعاطفين معها في قطر وتركيا تكرار التلفيق ونشر الشائعات، لرج الشارع المصري وزيادة درجة الصخب، كمدخل لما تتمناه من حراك ثوري يوحي بأن هناك مطالبات حاسمة برحيل الرئيس السيسي، وانطباعات بأن الأوضاع في البلاد متوترة وغير مستقرة، ومحاولة استدعاء مشاهد جرت في كل من السودان والجزائر مؤخرا.

تأثر قطاع كبير من السياسيين والمواطنين بما يجري حولهم، وشغفوا ببعض التجارب الناجحة في التحول الديمقراطي الناعم، وتمنوا أن تقدم الحكومة على خطوات كبيرة للإصلاح السياسي تعيد العافية للأحزاب والنشطاء بعدما دخلوا مرحلة طويلة من الخمول.

فهمت قيادات الإخوان تصاعد وتيرة التململ لدى بعض الأحزاب، وشريحة من المهمومين بتغيير الحالة السياسية العقيمة على أنها بداية موجة لحراك ضد الحكومة وسعت نحو ركوبها، كما فعلت في ثورة 25 يناير 2011، التي أدت إلى تغوّل الإخوان وتمدد دورهم، فجنوا ثمار ذلك خلال هيمنتهم على البرلمان والصعود إلى مقعد رئيس الجمهورية، حتى أسقطتهم ثورة أو موجة شعبية ثانية اندلعت في 30 يونيو 2013.

تريد الجماعة وحلفاؤها إعادة عجلة الزمن إلى الوراء لإنتاج المشهد الأول بحذافيره، أي القيام بعمليات للدعاية المغرضة تتكفل بالتمهيد لتكسير تدريجي في جدران الحكومة، وتوجيه انتقادات لاذعة للمؤسسة العسكرية الصلبة لتحييدها، وزيادة الحديث عن ارتكاب جرائم فساد في قمة هرم الدولة، والتهكم على ما يوصف بصمت الهيئات الرقابية عنها.

ناهيك عن العزف على وتر البسطاء الذين أضرّوا من برنامج الإصلاح الاقتصادي، مع تشكيك يمضي بوتيرة منتظمة في جدوى التنمية والمشروعات القومية الكبيرة، كي يبدو الرئيس السيسي، في النهاية، منزوع المخالب الأمنية والشعبية وتسهل مهمة النيل منه، لأن وجوده بات مكلفا للإخوان والقوى الداعمة لهم. ثم تأتي مرحلة تفعيل الأدوات الإعلامية، وتحريض الأذرع السياسية أفقيا ورأسيا، ودفع القوى الحزبية والنخبة الثقافية والشباب للنزول إلى الشوارع لتغيير الطبقة الحاكمة، باعتبار أنها سبب كل المشكلات في مصر والتي لن تنتهي إلا برحيل رأس الدولة.

رأت فئة كبيرة من المصريين هذه المشاهد تمر أمام أعينهم كشريط سينمائي جرى عرضه من قبل، وخبروا ما أفضى إليه الوضع من أزمات أوشكت أن تتآكل فيها بنى الدولة المركزية، وتدخل مجالا فسيحا من الفوضى والانفلات، ما جعلهم يتمهلون ويتفحصون كل دعوة جديدة للخروج عن طوع النظام، ويتعاملون معها بحذر حتى يتأكد العكس، فما بالك إذا جاءت الدعوة من الإخوان ومن يقفون معهم في خندق واحد.

نشأ جيل جديد من الشباب على بغض الجماعة، والتعرف على الكثير من الانتهازية المعروفة عنها، وازدحم العالم الافتراضي بأكاذيبهم السياسية، وعدم الاعتداد بأحزانهم ومحنهم، والملل من حديث المظلومية الشهير الذي لم تتوقف وسائل الإعلام عن ترديده ليلا ونهارا. وشبّت نسبة معتبرة من هذا الجيل على رفض البكائيات، والاعتذار صراحة عن الهروب من واقع سياسي أليم حاليا، إلى واقع سياسي مرير لاحقا.

يحتاج المصريون إلى وثبة حقيقية في ملف الإصلاح السياسي، بعيدا عن أجندة الإخوان المشبوهة، تخرجهم من التضييق الحاصل في مجال الحريات الذي فرضته دواع أمنية، وتمنحهم ثقة في الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة.

وثبة يقوم بها الرئيس الحالي الذي يرونه منقذهم من كابوس الإخوان والإرهاب، وأعاد إليهم الأمن والاستقرار، دون التفات لدعوات تسعى لتوظيف المساحة الرمادية في بعض التحركات التي تتبناها الحكومة المصرية وأدت إلى الغضب منها.

الرئيس السيسي لعب دورا مهما في إنقاذ الدولة

يخطئ من يتصور أن عشرات المواطنين الذين خرجوا مساء الجمعة يستطيعون تغيير النظام بالثورة، لأن هناك ملايين الصامتين في البيوت على استعداد للدفاع عنه، وتجاوز معاناتهم الحياتية، خوفا من السقوط في ظل انعدام البديل السياسي والغموض الذي يلوح في الأفق، ومواجهة شبح الإخوان من جديد، أو الدخول في نفق مظلم جريا وراء التغيير. دفع هؤلاء ثمنا باهظا طيلة سنوات ماضية، جعل شريحة كبيرة منهم تكفر بفكرة الضغط على النظام وتأييد الحراك الثوري إلى درجة الانفجار، خشية تدمير البلاد ودخول عالم لا أحد يعرف وقت الخروج منه، طالما اقترب من بوابات عنف تبدو مفتوحة على المجهول.

لدى البسطاء قناعة أن التغيير بقهر النظام الحاكم والاستفادة من أوجاعه والتشكيك في ذمة الجيش به سُم سياسي. وقاد احتكاكهم بمئات الآلاف من اللاجئين والمشردين من دول عربية خاضت غمار ثورات وانتفاضات إلى عدم الرهان على الحراك من خلال الشارع، وإذا حدثت تظاهرات فهي للحض على الإصلاح، وليس اندفاعا وراء الهدم ثم الانتظار لإعادة البناء.

أخفقت التحركات التي اعتقد أصحابها أن البناء الجديد يقوم على أنقاض التخلص من القديم في معادلة الثورات والانتفاضات العربية، باستثناء تونس التي لها خصوصية تتعلق بالبيئة الناضجة، حيث حالت دون وقوعها في أخطاء آخرين، ومن الصعوبة أن تصلح محاولات غواية المصريين بأي نموذج للحراك ولهم قاموس حافل بالمفاجآت.

يعتقد مصريون عديدون أن الرئيس السيسي لعب دورا مهما في إنقاذ الدولة، ويعود له فضل تقويض المتطرفين. وتنصب التحفظات على طبيعة الأولويات. فالرجل وضع البناء وتعمير الصحراء وتحسين الأحوال المعيشية في مقدمة الاهتمامات. الأمر الذي يراه البعض بحاجة إلى ضبط، ولا يتنافى مع المضي بالتوازي في مجال الإصلاح الشامل على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية والإعلامية.

بدأ البعض يبشر بخطوة جريئة يقدم عليها الرئيس السيسي في هذا الطريق تتكفل بتبريد السخونة التي تتمناها جماعة الإخوان، وتمنع تعاطف بعض القوى معها عن جهل أو اقتناع، وتوقف التكاتف حول فكرة التخلص من النظام بحجة أنه مسؤول عن الانسداد السياسي ويصعب الرهان على تصويبه في ظل هيمنته على مفاتيح الحل والعقد.

ولذلك يحتاج المصريون إلى الإصلاح الآن أكثر من أي وقت مضى، ويرفضون رحيل الرئيس السيسي في أجواء ملبدة بغيوم الإخوان. وهي النتيجة الواضحة التي التقطها المراقبون من تفاصيل أحداث الأيام الماضية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: