التسوّل ظاهرة مرضية تستفز المجتمع المغربي

استدرار عطف الناس ومحاولة الاستحواذ على مشاعرهم من بين الأهداف الرئيسية للمتسول لاكتساب ودهم ومن ثمّ نقودهم، قاعدة ينتهجها كافة المتسولين المحترفين والهواة، وكلما زادت حاجة المتسولين للمال طوّر هؤلاء أساليب استجلابه، وكحالة ميدانية أضحى التسول ظاهرة مقلقة بشوارع المغرب انعكست سلبيا على كافة مناحي الحياة.

 كلما جلست في مكان عام في المغرب، إلا ويتبعك متسولون فرادى أحيانا وجماعات أحيانا أخرى، والغريب أنّ نساء يحملن أطفالهن بمعيّة أزواجهنّ أصبحوا يمتهنون التسول كمهنة. وحددت تقارير عدد المتسولين بالمغرب بحوالي 195 ألف.

وأكد فؤاد بلمير، الباحث في علم الاجتماع،  أن التسول أصبح “ظاهرة مرضية” بالمجتمع المغربي، موضحا “إذا قلنا إنها ظاهرة اجتماعية فهذا لا يحدّد بالدقة اللازمة هذه الظاهرة، بل أضحى التسول مرضا اجتماعيا يجب البحث في أسبابه التي قد تكون كامنة في الثقافة المغربية”.

والخطير، وفق الباحث، أن هذه الظاهرة تمسّ جميع الفئات العمرية، حيث تجد أطفالا صغارا وشبابا وكهولا وشيوخا ونساء ورجالا.

وظاهرة التسول في المغرب، حسب عبدالعالي الرامي رئيس منتدى الطفولة، أصبحت معضلة اجتماعية حقيقية “رغم أن امتهانها يحط ّمن كرامة الإنسان، وهي جريمة يعاقب عليه القانون”. وأضاف “نعتبر هذه الظاهرة وصمة عار على جبين مؤسساتنا الرسمية والمجتمعية، وفي طليعتها الحكومة بكل مرافقها الاجتماعية”.

وأضاف الرامي، أن الهجرة زادت من تعقيد الوضعية بحيث أصبح الأمر مقلقا حقا بسبب احتلال مفترقات الطرقات، في جلّ المدن بما أنّ المغرب بلد عبور لمجموعة من المهاجرين فهم يقومون بالتسول من أجل لقمة العيش، وجمع أموال لتكون زادا لهم من أجل متابعة الهجرة إلى أوروبا.

وسجل فؤاد بلمير، أن هناك التسول المباشر والذي يطلب فيه المتسول المال في جميع الفضاءات العمومية المشتركة من مساجد ومقاه وحانات وحافلات، كما أن هناك تسولا غير مباشر، والذي أضحى ظاهرة لافتة وتستفزّ كل الفاعلين في المجتمع المغربي وهو تسول مقنّع يتستّر ممتهنوه خلف تقديم بعض الخدمات الرمزية كمسح زجاج السيارات.

يقول رشيد نادل بأحد مقاهي مدينة مكناس “كل يوم تدخل المقهى أشكالا جديدة من المتسولين نساء ورجالا وأطفالا”، مضيفا “هناك وجوه مألوفة تأتي في وقت محدد من النهار، منها ما تستحق بالفعل الصدقة والمعروف وأخرى نراها مرة أو مرتين ثم تختفي”.

من جهته يقول حسن، وهو بقّال بحي الأطلس في مدينة فاس، “عشرون سنة وأنا أشتغل بهذا المحل التجاري لا يمكن أن يمر يوم دون أن يأتيني متسول طالبا صدقة أو كي استبدل له قطعا نقدية معدنية بفئات ورقية، ومع مرور الزمن أصبحت أميّز بين المتسول الحقيقي والمزيّف. وأعرف عددا من النساء والرجال يملكون شققا في مدن أخرى وأموالا كثيرة جنوها من مهنة التسول، وقد تصل مداخيلهم إلى أكثر من 400 درهم في اليوم الواحد”.

انهيار القيم

الهجرة زادت من تعقيد الوضعية خاصة أنّ المغرب بلد عبور لمجموعة من المهاجرين فهم يقومون بالتسول من أجل لقمة العيش، وجمع أموال لتكون زادا لهم من أجل متابعة الهجرة إلى أوروبا

أضحى التسول ظاهرة مستفزّة داخل المجتمع فهناك من يرجعه إلى تغيير في قيم التضامن ويربطه آخرون بظروف اقتصادية واجتماعية.

يعتقد فؤاد بلمير، أن الظاهرة استفحلت بداية من عام 1982 إبّان مشروع إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني الذي تسبّب في ضرب عدد من الخدمات كانت تقوم بها الدولة، ما سبّب انهيار الطبقة المتوسطة الذي انعكس على المدرسة العمومية التي بدأت في السقوط وانهارت القيم بعدها.

فيما اعتبرت بسيمة الحقاوي، وزيرة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، أن للتسول أسبابا اقتصادية واجتماعية ونفسية، بالإضافة إلى أسباب أخرى مرتبطة بامتهان الناس للظاهرة من أجل الحصول على الأموال، وزادت الحقاوي أن الجانب الزجري مفيد للقضاء على الظاهرة، خصوصا بالنسبة للمواطنين الذين يلجؤون إلى الأمر وهم في وضعية لا بأس بها.

وينفي فؤاد بلمير، أن تكون الأسباب ناتجة عن الفقر، رغم أن هناك من يوجد في وضعية اجتماعية صعبة لكن هذا لا يفسر نهائيا ظاهرة التسول، مؤكدا أن الذين هم في أمسّ الحاجة للمساعدة يتعفّفون، أمّا النسبة الكبيرة من المتسولين في الفضاء العمومية لا تستحق المساعدة والصدقة.

ويكمُن الحلّ الأمثل للحد من ظاهرة التسول حسبما يرى فؤاد بلمير، في إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، واستعادة مكانتها لتربية أجيال على العفّة والكرامة والعمل الجادّ وتعليمها أن مدّ اليد عيب، ويضيف “لا بد من ترسيخ المسجد كمؤسسة تنشئة اجتماعية ما دمنا دولة مسلمة، خاصة أن أكثر من 12 مليون يحضرون صلاة الجمعة، فلا بد من ربط المقوّمات الدينية والحضارية مع التحوّلات التي تقع في المجتمع، وتمرير خطابات تحث المغاربة على ترك أسلوب التسول الذي ينتقص من كرامتهم.

من جهته شدّد عبدالعالي الرامي رئيس منتدى الطفولة، أنه على مؤسسات الدولة التكفّل بالأشخاص الذين يعيشون في وضعية اجتماعية هشّة، وذلك بتوفير فرص الشغل وظروف العيش الكريم من السكن اللائق والتعليم الجيّد، وتطبيق القانون لمحاربة هذه الظاهرة السلبية التي تسيء لوطننا ولثقافة التكافل الاجتماعي والعائلي الذي يعيشه أبناء المغرب في ما بينهم.

وللدفاع عن دورها في هذا المجال، أشارت بسيمة الحقاوي إلى أن الحكومة أطلقت مجموعة من المشاريع تستهدف تحسين وضعية المواطنين قبل وصولهم إلى مرحلة التسول، موردة أن برنامج “دعم” يستفيد منه 166 ألف يتيم، وبرنامج “صندوق التماسك” يصل مفعوله إلى 12 ألف طفل من ذوي الإعاقة.

وللوقوف على بعض الحالات التي لا تستفيد من مثل هذه البرامج الحكومية ، صرحت فتيحة  وهي إحدى المتسولات في الخمسين من عمرها، تجلس بشكل يومي بجانب الباب الخلفي لأحد المساجد بمدينة صفرو، لاحظنا أنها لا تتوسل باكية بل تقول بصوت منخفض “صدقة الله يرحم الوالدين”، ولا تشارك غيرها الكلام.

وقالت فتيحة ، شاكية أنّ السبب الذي يدفعها إلى التسول هو ظروفها الاجتماعية، إذ “أجبرتها والدتها على مغادرة مقاعد الدراسة مبكّرا واشتغلت في المنازل وبعض المقاهي، ولكن صحتها خانتها فالتجأت إلى باب المسجد تستجدي المحسنين”.

يُلفت باحثون في علم الاجتماع، من جانبهم، إلى تقلّص قيم التعاون والتضامن داخل المجتمع المغربي نتيجة غياب أدوار فعالة للعائلة والمؤسسات المعنية بالدفاع عن العدالة الاجتماعية، ما عمّق من التفاوتات الاجتماعية والفردانية والأنانية، ولهذا فتحدّي المغرب اليوم لمواجهة هذه الآفة وما ينتج عنها حسب فؤاد بلمير، هو التنمية وإنتاج الثروة مع مصاحبتها بمنظومة للقيم حتى يكون التحدي في مستوى الانتظارات.

ومع استفحال التسول بشوارع المغرب يطرح سؤال نجاعة برامج التنمية البشرية والسياسات العمومية التي انتهجتها الدولة للحدّ من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى هذه الظاهرة داخل المجتمع المغربي، خصوصا مع تزايد الهشاشة الاجتماعية وغياب العدالة الاجتماعية الناتجة عن سوء التوزيع العادل للثروة.

ويجمع برلمانيون بمجلس المستشارين، بأن ظاهرة التسول تقتضي إيجاد حلول اقتصادية واجتماعية، إذ أنّ تحسين هذه الظروف يكون سببا مباشرا في الحدّ من ظاهرة التسول أو تخفيض نسبتها العامة، التي ترسم أرقاما مهولة على الصعيد الوطني.

استغلال الأطفال

التسول أصبح ظاهرة مستفزّة داخل المجتمع 

تقول حسنية فتاة من مدينة فاس لا تتعدى الثانية عشرة من عمرها، إنها ترعرعت في وسط يمتهن التسول حيث أن “جدتي كانت ولازالت تحثّنا على الوقوف أمام المساجد والأسواق وجلب النقود، فهي لا تتسامح معي أو مع أخي الذي يصغرني بعامين، فالمهمّ عندها أن نكون مفيدين للعائلة المكوّنة من سبعة أفراد”.

وتضيف ، أن والدتنا كانت هي الأخرى تجلس إلى جانب جدتي أمام المساجد وتقصد المنازل في الأحياء الراقية، أما أبي فعمله يتمثل في حراستنا من بعيد، وعندما يقع مشكل ما مع أحد المتسولين يتدخل بعنف حتى أصبح كلّ من يعرفنا أنا وأخي وجدتي لا يتجرأ على التحرش بنا.

وتؤكد حسنية أن “التسول هو مستقبلي، هذه هي مهنتي، هذه هي حياتي، فأنا الآن في أوجّ عطائي”. ولم تقدّم الفتاة رقما حول مدخرات العائلة أو المدخول اليومي، لكنها أشارت إلى أن المبالغ التي تتحصل عليها تنخفض وترتفع حسب المواسم والفصول.

ويُجمع المهتمون والمشتغلون بميدان علم الاجتماع والحقوق والتربية، أن التسول بالمغرب آفة مجتمعية، خصوصا مع توسع دائرة استعمال الأطفال وذوي الحاجات الخاصة كأدوات فعّالة في عملية التسول.

وقال فؤاد بلمير، إن الذين يمتهنون التسول هم من الأطفال الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و11 سنة، يتنقلون بين المقاهي والطرقات، كما أنّ هناك متسولين موسميين في المناسبات الدينية كالأعياد وشهر رمضان.

ومن التجليّات المؤلمة والخطيرة لهذه الظاهرة، حسب عبدالعالي الرامي، انخراط الأطفال من كل الأعمار في ممارستها، كما يتمّ استغلالهم ويستعملونهم كطعم وكوسيلة لاستدرار عطف الناس من أجل التكسّب غير المشروع.

وفي الشوارع الرئيسية بالمدن الكبرى كالرباط أو الدار البيضاء أو فاس تعوّدت نساء على افتراش الأرض وبجانبهن أطفال صغار يستجدين بهم المارة، وهناك نساء من يلبسن لباسا أبيض ويدّعين أن الزوج قد توفي وترك لهنّ طفلين ولا معيل لهنّ، رغم أن غالبية اللواتي يستعملن هذه الوسيلة ليس لهن أولاد بل يستغللن أطفالا تمّ التخلّي عنهم أو يتامى.

من جانبه، كشف سعيد، مموّن لإحدى دور المسنين بالخضر واللحوم ، أن هناك بعض المسؤولين الجشعين يستغلون الرجال والنساء المتخلّى عنهم فيتركونهم يخرجون إلى الشارع بعد وجبتيْ الفطور والغداء بشرط استعطاف الناس وجلب كل ما يتحصّلون عليه.

فيما قال محمد، موظف بإحدى الشركات، لم يعُد الشارع والأزقة محلا للمتسولين بل عاينت في كثير من الأوقات أن متسولين باتوا يستخدمون “طرقا متطورة”، إذ باتوا يدخلون الشركات للنصب على الموظفين والمدراء، واستدرار عطفهم بدواعي مرض أحد أفراد عائلاتهم أو أنهم لا يسكنون المدينة وتعرّضوا للسرقة، وهم يحتاجون فقط لمبلغ مالي كي يصلون إلى منازلهم في مدن أخرى، وأضاف أن هذه الوسيلة المبتكرة يشترك فيها النساء والرجال الذين يبدون بهندام جيّد.

تشديد العقاب

دخول أجانب من الأفارقة ومن اللاجئين السوريين على خط التسول بالمغرب

يبدو أن الزجر هو حائط الصدّ الأهمّ في محاربة ظاهرة التسول وتقليصها، وفي هذا الإطار تقوم السلطات المختصة بين الفينة والأخرى بعمليات تمشيط للقبض على المتسولين وإيداعهم المصالح الخاصة.

يذكر أن أعضاء البرلمان اهتموا بظاهرة التسول. وقد تمت مناقشة الموضوع داخل مجلس المستشارين بتاريخ 4 يونيو 2019، مطالبين الحكومة بمحاربتها كونها تسيء إلى صورة المغرب، لاسيما في ظل وجود شبكات باتت تمتهن هذا النوع من العمل وتستغلّ أطفالا تمّ التخلّي عنهم؛ وذلك من خلال القيام بمراجعة تشريعية لمحاصرة المساهمين في الظاهرة.

وكمثال أوقفت عناصر الشرطة بمدينة أكادير، في العام 2018 امرأة تمتهن التسول بعد مراقبتها لمدة معيّنة، فتبيّن أنها تمتلك منزلا خاصا بها، وسيارة فارهة تتنقل بها بين المساجد بعدما تقوم بتغيير ملابسها الجميلة بأخرى بالية لاستعطاف المصلين. والأشكال التي يستخدمها المتسول كثيرة، فهو يبدع ويجتهد في خلق أشكال متنوّعة للقيام بالتسول وحيل في إظهار الحاجة الماسّة للمال وقد طوروا أساليب البكاء أو إظهار أنفسهم وكأنهم من ذوي عاهات لاستثارة عطف المارة، كما يقول فؤاد بلمير، وهناك من يطلب التبرّع بالمال لأجل مشروع خيري كبناء المساجد والمدارس، معتمدا على “كاتالوغ” من الأدعية والكلام الحلو يترك في نفسك أثرا طيبا ويكون جواز دخول إلى عاطفتك، لهذا يجب أن تكون العقوبة مشددة، مضيفا أن هذا احتيال يجب أن يكون النص القانوني رادعا له.

وتعاقب مجموعة من فصول القانون الجنائي المتسولين بالسجن، وتتراوح العقوبة بالفصل 326 من القانون الجنائي من شهر إلى ستة أشهر سجنا، كل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بوسعه الحصول على عمل، لكنه تعوّد على ممارسة التسول بطريقة اعتيادية.

كما تواجه فئة أخرى من المتسولين عقوبات سجنية تتراوح ما بين ثلاثة أشهر إلى سنة نافذة، بموجب الفصل 327، إذا ارتبطت الظاهرة بالتهديد أو التظاهر بمرض أو عاهة، كما تكون العقوبة مشددة في أقصاها إذا تعوّد المتسول على اصطحاب طفل صغير أو أكثر من غير فروعه، أو الدخول إلى مسكن أو أحد ملحقاته دون إذن مالكه أو شاغله، كما يعاقب بالتسول جماعة إلا إذا كان التجمّع مكوّنا من الزوج والزوجة أو الأب أو الأم وأولادهما الصغار أو الأعمى والعجوز أو من يقودهما.

وبوصفها ممثلة للحكومة أوضحت بسيمة الحقاوي، أن الدولة وضعت ضمن القانون الجنائي مقتضيات تعاقب على ممارسة التسول في الشارع العام؛ لكنها أكدت أن القانون وحده لا يكفي للقضاء على التسول في شوارع ومدن البلاد.

وفي هذا الإطار نص الفصل 328 من القانون الجنائي على عقوبات سجنية تضمّنها، أيضا، الفصل 327، وتهم من يستخدم التسول صراحة تحت ستار مهنة أو حرفة ما، أطفالا تقلّ سنهم عن 13 عاما.

ولمواجهة ظاهرة التسول تمّ إشراك القوات المساعدة وتزويدها بالأدوات اللوجستية المناسبة لملاحقة المتسولين والمتشردين بالشوارع العمومية قصد نقلهم إلى مراكز الإيواء، وحسب جمعيات تهتم بالمشردين والأطفال المتخلّى عنهم، فإن الحملات التمشيطية التي تقوم بها السلطات بين وقت وآخر غير كافية بسبب تزايد احتراف الظاهرة، ودخول أجانب من الأفارقة ومن اللاجئين السوريين على خط التسول بالمغرب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: