فعلها التونسيون ثانية

أشارت صحف تونسية إلى تقديرات استطلاعات الرأي التي منحت المرشحيْن، قيس سعيد، ونبيل القروي، المركز الأول والثاني في الانتخابات الرئاسية، التي جرت يوم أمس الأول، ووصفتها بالزلزال السياسي.

من هو قيس سعيد الذي منحه التونسيون أكبر نسبة من الأصوات، ليعتبر المراقبون ذلك بمثابة الزلزال؟

في حوار صحافي سابق معه، الثلاثاء 11 يونيو 2019، قال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد “على الدولة أن تعمل على تحقيق مقاصد الشريعة، أنا ضد المساواة في الميراث، ومع عقوبة الإعدام، والمثليون يحصلون على تمويل من الخارج لإفساد الأمة الإسلامية”.

كلام واضح لا لبس فيه. لقد اختار التونسيون “رجل قانون صارما”، فهل اختيارهم من يريد أن يطبق “شرع الله” يعتبر زلزالا سياسيا؟

سبق للتونسيين أن منحوا أصواتهم لحركة النهضة، وتوقع الكثير من المراقبين أن يختاروا اليوم مرشح النهضة، عبدالفتاح مورو، الذي جاء بالمركز الثالث، على خلاف ما كان متوقعا. إن لم يكن خيار التونسيين، إذا، من باب التدين أو التقرب من الله.. لماذا صوتوا هكذا؟

سؤال طرحه رئيس الحكومة ومرشح الرئاسة التونسية، يوسف الشاهد، الذي عبر عن احترامه لتقديرات نتائج الانتخابات الصادرة عن مؤسسات سبر الآراء.

الشاهد لم يسعفنا بالجواب، فالجواب يعلمه الجميع. اختار التونسيون معاقبة طبقة سياسيّة سيطرت منذ ثورة 2011، واضعة البلاد في حالة من عدم اليقين.

على مدى تسعة أعوام حضرت السياسة في تونس، وغاب الاقتصاد والمجتمع عنها، اقتصر الصراع بين السياسيين على المناصب ومن يشغلها، لم يسلم من ذلك اليمين، ممثلا بالنهضة، ولا الوسط، ممثلا بالنداء، ولا اليسار، ممثلا بالجبهة الشعبية.

عندما تعلق الأمر بالاقتصاد والمجتمع، اكتفى الجميع بإغداق الوعود، التي فشلت في أن تتجسد على أرض الواقع، ليزداد الواقع قتامة. لم تؤدّ الوعود إلى ملء “قفة” المواطن التونسي، ولم تنجح في توفير موطن عمل لخريج التعليم العالي، ولم توقف حالة التدهور في القطاع الصحي، أو ترفع، ولو نسبيا، مستوى التعليم، وعجزت عن حل مشاكل القطاع الزراعي.

تحدث السياسيون عن الفساد والتهرب الضريبي والاقتصاد الموازي وارتفاع نسبة الجريمة، ولكنهم لم ينجحوا في تقديم حلول لأي منها، لتبقى مجرد وعود. الإنجاز الفعلي للثورة وللطبقة السياسية يجني ثماره التونسيون اليوم، وتدفع ثمنه الطبقة التي احترفت العمل السياسي، ونقصد به الديمقراطية.

التونسيون عاقبوا السياسيين عبر صناديق الاقتراع، ليأتي على رأس خياراتهم المفضلة، قيس سعيّد، وهو مرشح مستقل صارم يُلقّب بـ”الرجل الآلي”، معروف عنه التحدث باللغة العربية الفصحى التي لا تفارقه، ويستضيفه الإعلام التونسي كلّ ما كان هناك سجال دستوري في البلاد، يُقدّم القراءات ويوضح مواطن الغموض في الجانب القانوني.

الذين عرفوا سعيّد أستاذا في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، قبل عشرين عاما، يقولون إن محاضراته لم تكن “مجرد دروس تلقى للطلبة، بل كانت عرضا خطابيا، يمزج فيه معارفه في الحضارة والآداب العربية، بمعارفه في نظريات القانون الدستوري. وفي تعريفه للدستور كان يخير الانطلاق من ‘لسان العرب’، بدل العودة إلى المراجع الغربية”. وكانت محاضراته الأكثر إقبالا من قبل الطلبة.

المرشح الثاني، نبيل القروي، رجل إعلان تحول إلى رجل إعلام، بعد إطلاق قناة “نسمة” الفضائية، ولا يعرف عنه أي ماض سياسي، ترشّح للانتخابات الرئاسيّة بعد تأسيسه حزب “قلب تونس”. لقبه البعض بـ”روبن هود”، حيث بنى شعبيته من خلال توزيع إعانات وزيارات للمناطق الداخليّة المهمشة من البلاد، وسرعان ما أصبح يتمتّع بقاعدة انتخابيّة كبيرة.

قرّر القضاء التونسي إيقافه قبل عشرة أيام من انطلاق الحملة الانتخابيّة، على خلفيّة تُهم تتعلّق بتبييض أموال وتهرّب ضريبي، إثر شكوى رفعتها ضده منظمة “أنا يقظ” التونسية عام 2017.

باءت كل الجهود المبذولة لإطلاق سراحه بالفشل، عندها قرّر الدّخول في إضراب عن الطعام من سجنه، لتتولى زوجته، سلوى سماوي، وعدد من قيادات حزبه “قلب تونس” مواصلة حملته الانتخابية التي أوصلته إلى المركز الثاني.

في البدء، كسر التونسيون حاجز الخوف، من أنظمة شمولية تمجد شخصية الزعيم الواحد والحزب الواحد، لتسقط حكومات عربية تباعا، في ثورات متعاقبة. واليوم يفعلها التونسيون ثانية، لتكون النتائج المتوقعة للانتخابات الرئاسية شهادة على أن تونس نجحت في دفن عصر التزوير ونسبة تسعة فاصل تسعة، التي اعتاد زعماؤنا على نيلها والتباهي بها.

في ظل اقتراع مثل هذا لن نجد ما نقول للفائز، مهما كان حجم اختلافنا معه، سوى كلمة “مبروك”، ونتمنى له حظا سعيدا في مهمته الجديدة، لأنه سيحتاج الكثير منه، ليرضى عنه التونسيون.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: