بين اللغة والسياسة في المغرب

أثار قانون الإطار حول التعليم، الذي تم تبنيه في المغرب مؤخرا، والذي يتضمن تدريس العلوم باللغات الأجنبية، جدلا لم ينته بعد. كان للنقاش مع ما يتضمنه من مداخل للإصلاح أن يشمل الجوانب التربوية، بما فيها نجاعة التعليم باللغة الأجنبية أو عدمها قبل تبني القانون، وكان ينبغي للنقاش بعد أن تم تبني القانون، أن يكون قانونيا حول مدى مطابقته للدستور، ويحال إذاك على المحكمة الدستورية، ولكن النقاش سرعان ما اكتسى طابعا سياسيا، بله أيديولوجيا بعد أن تم تبنيه. ترفُضه شرائح من مرجعيات أيديولوجية عدة، إسلامية، أو قومية، أو حتى لاعتبارات ذاتية.
غاية الإصلاح الذي يتضمنه القانون هو الارتقاء بالمنظومة التربوية. والإصلاح طبعا أشمل من تبني لغة أجنبية في تدريس العلوم. بيد أن مسألة اللغة حساسة في المغرب، ولربما في الجزائر كذلك، فاستعمال اللغة الفرنسية، أو الدعوة لها، يُقْرن عادة، عن خطأ أو صواب، بالماضي الاستعماري، ولربما تضاف لهذا الموضوع الحساس فزاعة التفرقة التي يتم التلويح بها، لأن البعض ممن يدافعون عن التعريب، قد يحشرون الاتجاهات الأمازيغية صراحة أو ضمنا، في الدعوة للفرنسية أو الفرانكوفونيين، ويتهمونهم بتمرير أجندة المستعمر، والحال أن ليس هناك مطابقة بالضرورة بين الأمازيغية والفرنكوفونية. ومن المؤكد أن الاتجاهات الأمازيغية غير المنطبعة بفكر ديني لا تنظر للغة العربية نظرة تقديس، وإنما موضوعية، وصحيح أن البعض من هذه الاتجاهات قد يَحمل على اللغة العربية، إما كرد فعل، أو ميل للشغب، أو من منظور أيديولوجي… والأيديولوجيا مكروهة، من أي جهة كانت في قضية حساسة، مثل التربية. ومن المؤكد كذلك أن هناك فرقا بين من يدعو للانفتاح على اللغة الفرنسية، بدون أن يفرط في لغته وفي أسس ثقافته، ولا توجهات التحرر، والفرنكفونية التي هي انسلاخ عن مقومات المجتمع واستلاب. ومن المؤكد أن الدعوة للتعدد والاعتراف بالواقع ليست رديفا للتفرقة، ولربما يكون إنكار غنى الواقع هو ما قد يؤدي لردود فعل غير محمودة العواقب.
هناك جملة مأثورة للكاتب الجزائري كاتب ياسين، وهي أن اللغة الفرنسية غنيمة حرب، ولكن الناس لا يقفون عند جملة أخرى، لربما هي الأكثر تعبيرا لفكر الأديب المتميز ولواقع الحال، في الجزائر كما المغرب، وتميز بين أن يكون المرء عارفا للفرنسية وفرانكوفونيا: «أتكلم الفرنسية لأقول للفرنسيين إنني لست فرنسيا».
اللغة حمّالة أوجه، ولذلك فالانفتاح على اللغات الأجنبية، ومنها طبعا اللغة الفرنسية، قد يكون مصدر غنى وإثراء، إن كان للشخص كما للمجتمع قدم راسخة في ثقافته، متشرب بقيم مجتمعه، كما قد تكون مصدر استلاب إن كان الشخص كما المجتمع مهزوزا أو مجتث الجذور عن واقعه. وللأسف الشديد انعدمت الموضوعية في هذا النقاش. دفع البعض ممن ناهضوا القانون، أنه يكرس اللغة الفرنسية، لغة المستعمِر، والحال أن اللغة الفرنسية لغة صماء، يمكن أن تدفع لفكر تحرري، مثلما أنها قد تحمل فكرا محافظا، بل عنصريا. فالفرنسية هي لغة فلاسفة الأنوار، وفرانز فانون، وسارتر، ومسلمين فرنسيين، وكتاب أصحاب فكر حر يدافعون عن المحرومين والمهضومة حقوقهم، وهي أداة لفكر إنساني. بالمقابل يمكن لمن يستعمل اللغة العربية، أن يكون أداة للاستعمار الجديد، ومسوغا للاستلاب، عن وعي أو غير وعي، بل يمكن أن يتم ذلك من خلال تأويل معين للإسلام. وقد عرفت منطقتنا، بعض الطرق الصوفية ذات الممارسات الخرافية، وكانت تبرر الاحتلال، وتتعامل مع المستعمر. وما يزال الحاضر مليئا بتوظيف رجعي للدين، مناف للكرامة الإنسانية، فليس هناك تطابق بين اللغة الفرنسية والاستعمار، وليس هناك كذلك تطابق بين اللغة العربية والتحرر.

اللغة حمّالة أوجه، والانفتاح على اللغات الأجنبية، ومنها طبعا اللغة الفرنسية، قد يكون مصدر غنى وإثراء

دفع البعض في هذا السجال إلى وضع اللغة العربية باعتبارها لغة قومية للمغاربة، والحال أن هذا المقتضى يفترض وَقفة متأنية، ذلك أن اللغة العربية لم تكن قطُّ لغة قومية للمغاربة كما الفرنسية للفرنسيين، أو الإيطالية للإيطاليين. كانت وضعها مختلفا، ذلك أنها كانت لغة حضارة، أو إن شئنا حسب المصطلح الرائج lingua franca شأن المغربي في ذلك شأن القزويني أو الأصفهاني أو التبريزي، أو الأساكي (السوداني). صحيح أن المغربي يمكن أن يكون عربي الأرومة، ولكن علاقة المغاربة باللغة العربية هي علاقتهم بحضارة، ولم تكن هذه الحضارة تنفصل عن عمقها الديني، فضلا عن إشعاعها حينها. أريد للغة العربية عقب الاستقلال أن تكون لغة قومية، وكان ذلك يفترض ضمنيا القضاء على التعبيرات اللغوية الأخرى. كون اللغة العربية لغة حضارية، رغم ما اعترى الحضارة العربية الإسلامية من انتكاس، لا يعني بالنسبة للمغاربة التنكر لهذا الجانب التاريخي المقترن بها، المتأتي من تراث غني، وحاضر ثري، وضع اللغة العربية كلغة حضارة، جعلها تتعايش مع اللغات القومية الأخرى، تغنيهم مثلما تستفيد منهم، ولذلك لم يجد شخص فذ مثل عبد الكريم الخطابي غضاضة في الدفاع عن اللغة العربية، رغم أن لغة تخاطبه في البيت هي الأمازيغية، وقل الشيء ذاته عن العلامة المختار السوسي. فدفاعهما عن العربية لم يُلغ ارتباطهما بلغتهما القومية.
والعنصر الغائب في النقاش، أن الذين يصدرون من اعتبارات أيديولوجية في رفضهم للقانون الإطار، لم يقدموا نتائج علمية من خلال أبحاث ميدانية، حول تجربة تعريب تدريس العلوم باللغة العربية دامت لثلاثين سنة. والطريف هو أن الكثيرين ممن انبروا منافحين عن تدريس العلوم بالعربية، بضاعتهم مزجاة من اللغة العربية من قبيل «أكلوني البراغيث»، يظهر ذلك جليا في ضحالة معجمهم، وأخطائهم اللغوية، وميل بعضهم للجاج عوضا عن الحوار الرصين، وتنوب الأيديولوجية عن المعرفة الدقيقة والعميقة… ومثلما يقال، إن الله لا يُعبد بالجهل، فلا يمكن الزعم بالدفاع عن اللغة الغربية مع عدم امتلاك ناصيتها ومعرفة أسرارها.
النتيجة التي أود أن أخلص لها، وهي أن اللغة العربية جزء لا يتجزأ من الشخصية المغربية، ولا يسوغ بحال من الأحوال الإزدراء أو التضحية بها. لكن ذلك لا يعفي من قول أشياء لربما قد تغضب من يصدرون من اعتبارات أيديولوجية، وهي ضرورة الارتقاء باللغة العربية، في طريقة تدريسها، وصياغة المصطلح الدقيق، في التنسيق بين مجامع اللغة، ليس بين اللسانيين وحدهم، ولكن مع ذوي الاختصاص في كافة العلوم، فلا يكفي أن يعرف المرء اللغة العربية إلى جانب لغة أجنبية، لينقل الكلمة أو المصطلح، بل يتوجب عليه بالدرجة الأولى، أن يعرف معرفة دقيقة حقل الاختصاص.
ظلت اللغة العربية في مستوى البيان، ولم ترْقَ بعدُ إلى مستوى العرفان أي العلوم والتكنولوجيا. وهي لن ترتقي بها لوحدها، بل من خلال من يحملونها. ولا تكفي الغيرة أو الحمية، لكي تصبح لغة عرفان كما كانت سابقا في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، بل معرفتها أو معرفة أسرارها ، ومعرفة العالم الحديث.
في دفاعي عن الانفتاح الذي تضمنه القانون الإطار، لم أدافع عن اللغة الفرنسية، بل دافعت عن إمكانية ارتقاء المغاربة إلى العلم أو ولوجهم إليه كما يقال في هذا المصطلح المترجم حرفيا من اللغات الغربية. أقرب السبل للانتقال إلى العلم ونقله في المغرب هو الفرنسية، مرحليا، مع التأهب في أناة وعزم وروية للتعلم باللغة الإنكليزية. فالمسألة أعقد من قرار يتم اتخاذه. قد يكون دفاعي عن الانفتاح مجروحا إن لم يتشرب التلميذ باللغة العربية، منذ نعومة أظفاره، حتى تصير لديه مَلَكة كما يقول القُدامي. وقد لا يكون تعليم العلوم باللغة الأجنبية مجديا، إن لم يواكب ذلك عمل جاد في الترجمة ووضع القواميس الحديثة، غير القواميس القديمة، مع ما يستلزم ذلك من تحيين المواد وحسن عرضها، ونحت المصطلح الدقيق. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: