الاكتئاب بطل وقائع الانتحار في المغرب

جمعية “ابتسامة رضا” تطلق حملة لمحاربة الانتحار في صفوف الشباب المغاربة وتؤكد أنه في بعض الأحيان يمكن لتصرف بسيط أن يعيد الثقة إلى شاب فقد الأمل.

ارتفعت معدلات الانتحار بعدد من المدن المغربية في الآونة الأخيرة وتظل الأسباب المؤدية إلى الانتحار نفسية في المقام الأول بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية.

 أصبحت حالات الانتحار في المغرب حوادث متكررة بشكل يثير الرعب في المجتمع. ومع ذلك ما زالت الدولة تتحفظ على الإقرار بكون هذه الحوادث أصبحت ظاهرة اجتماعية يجب أن تُعالَج. وإضافة إلى غياب الأرقام الرسمية لعدد المنتحرين لا توجد استراتيجية وطنية لمقاومة الظاهرة.

ويأتي المغرب في المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد حالات الانتحار بعد السودان، وذلك بمعدل 5.3 لكل 100 ألف نسمة، وفق تقرير صادر عام 2017 عن منظمة الصحة العالمية بمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار الذي يوافق العاشر من سبتمبر من كل عام.

صحة نفسية بائسة

يربط مختصون بشكل كبير بين المعاناة النفسية وظاهرة الانتحار في المغرب. ويشير الطبيب والمحلل النفساني جواد مبروكي، في تصريح لـ”العرب”، إلى أنه في معظم الأحيان تكون أسباب الانتحار نفسية مثل الاكتئاب أو الاضطراب المزاجي ذي القطبين أو كل حالات الذهان، أما في بعض الحالات فيكون الانتحار نتيجة أزمة اقتصادية أو بعد فضيحة اجتماعية أو ارتكاب جريمة مّا.

وتوصلت نتائج دراسة ميدانية أجراها ائتلاف الجمعيات العاملة لأجل الصحة النفسية، سنة 2016، إلى أن 48.9 بالمئة من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية أو سبق لهم أن عانوا منها. وشملت الدراسة ما لا يقل عن 25 نوعا من الأمراض النفسية التي يرجح أن يصاب بها المغاربة، والتي قد تكون من مسببات الانتحار عند عدد لا يستهان به من المرضى، وبينت أيضا أن حوالي 600 ألف مغربي يعانون من اضطراب عقلي حاد.

وأبرزت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، في تقرير لها صدر سنة 2012، أن مستشفيات الأمراض النفسية بالمغرب لا تتوفر فيها أدنى شروط الإنسانية للاستشفاء والعلاج، فضلا عن النقص الحاد الذي تعرفه في بنيات الاستقبال من مراكز صحية وقائية أو أجنحة خاصة في المستشفيات العمومية.

وفي نتائج استطلاع أجرته جمعية “ابتسامة رضا”، هذا العام على موقع الجمعية، شمل عينة مكونة من 1245 شابا وشابة، أجابت نسبة 85 بالمئة منهم بنعم، حينما طرح عليهم سؤال “هل سبق لك أن مررت من ظروف عانيت كثيرا بسببها؟”، فيما قالت نسبة 56 بالمئة إنه كلما صادفتها مشكلة ما لا تتحدث مع أي شخص، فيما أكدت نسبة 63 بالمئة تعرضها للعنف الجسدي أو المعنوي في الوسط العائلي، كما أن نسبة 47 بالمئة قالت إنه سبق أن كانت ضحية للتحقير، والتحرش الجسدي أو اللفظي في مرحلة التعليم الثانوي، وأظهرت الأرقام أن خطر الانتحار يهم 40 بالمئة من المتصلين بالخدمة.

49 بالمئة من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية أو سبق لهم أن عانوا منها وفق إحصائيات تعود لعام 2016
49 بالمئة من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية أو سبق لهم أن عانوا منها وفق إحصائيات تعود لعام 2016

وللتعاطي مع المرضى النفسيين الذين قد يتجهون إلى وضع حد لحياتهم، ركزت الشبكة المغربية من أجل الحق في الصحة على ضرورة توفير الخدمات العلاجية بما يضمن الكرامة الإنسانية للمرضى وحقوقهم الأساسية، وذلك عبر إحداث بنيات مستقبلة في المستوى المطلوب، وسد الخصاص “المريع” في الموارد البشرية، وتبني سياسة علاجية متعددة الأبعاد.

والأخطر من هذا حسب جواد مبروكي، أنه بعد أن يُنقل المريض في أعقاب محاولته الانتحارية إلى قسم المُستعجلات، يتم الاكتفاء فقط بتقديم الإسعافات الأولية له ومن ثم يُسمح له بالعودة إلى منزله دون أن يخضع في الحين لفحص طبي نفسي كافٍ لتقويم خطورة الانتحار والتنصيص على ما يجب القيام به لحماية المريض بطرق علاجية سليمة.

وفي هذا الصدد لفت وزير الصحة السابق، الحسين الوردي، إلى أن مراكز الصحة النفسية والعقلية قليلة جدا في المغرب، بل وتعد على رؤوس الأصابع، ناهيك عن كونها متقادمة وتعاني نقصا حادا في الموارد البشرية بنسبة تتجاوز 45 بالمئة وتوجد فقط في المحور الرابط بين الرباط والدار البيضاء. وكشف المسؤول الحكومي السابق، أن 160 طبيبا فقط يشتغلون لعلاج 8 ملايين شخص يعانون من الاكتئاب، و3 ملايين يعانون من القلق المستمر، و300 ألف يعانون من الفصام.

ويرى مهتمون أن شعور عائلات المنتحرين بـ”العار”، يكون سببا في الامتناع عن اللجوء إلى المستشفيات وعيادات الطب النفسي، ويفضلون عدم تبليغ المراكز الحقوقية ما يحول دون معرفة حجم المشكلة في الواقع. ورغم ذلك رفض وزير الشباب والرياضة المغربي الربط بين ارتفاع نسبة انتحار الشباب وبين النقص في البنيات التحتية وغياب الترفيه، لكن جواد مبروكي يعتقد أن هناك علاقة.

وشدد المحلل النفسي على ضرورة تركيز “هياكل صحية نفسية في جميع المناطق إضافة إلى إرساء مشروع طبي نفسي يتأقلم مع الوضعيات المجتمعية ومعاضد ببرامج إعلامية ودراسية وتحسيسية للمجتمع مع تطوير الثقافة الطبية الغائبة في المجتمع المغربي والنفسية لتخفيض نسبة الانتحار”.

ولمحاربة الانتحار في صفوف الشباب المغاربة، أطلقت جمعية “ابتسامة رضا” حملة بعنوان “أنا مْعَاك”، وذلك بمناسبة اليوم الوطني للحد من الانتحار عند الشباب، الذي أعلنته الجمعية في الخامس من فبراير من كل سنة منذ 2013، مبرزة أنه في بعض الأحيان “يمكن لتصرف بسيط أن يعيد الثقة إلى شاب فقد الأمل”.

ولفت مبروكي إلى أن “محاولة الانتحار تعتبر من الأولويات ذات الخطورة العالية وتعد من المستعجلات في الطب النفسي لأنها تهدد حياة المريض، وتقع المسؤولية المباشرة على الطبيب والعائلة في حماية حياته حيث يجب إخضاعه للعلاج الفوري في المستشفى خاصة إذا لاحظ الطبيب أن هناك أعراضا ومؤشرات تدل على خطر الانتحار كأن يُعبر المريض شفوياً أو كتابياً عن أفكار انتحارية أو يقدم على محاولة انتحار”.

معظم الأحيان تكون أسباب الانتحار نفسية مثل الاكتئاب أو الاضطراب المزاجي ذي القطبين أو كل حالات الذهان، أما في بعض الحالات فيكون الانتحار نتيجة أزمة اقتصادية أو بعد فضيحة اجتماعية أو ارتكاب جريمة مّا

وتتوجه الحملات التحسيسية لجمعية “ابتسامة رضا” إلى الأطفال والشباب من تلامذة التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وإلى الآباء ومهنيي التعليم والصحة والمجتمع المدني، حيث ساهمت هذه الحملات في كسر الطوق المفروض حول ظاهرة الانتحار وإعطاء فرصة لفئات الشباب للتعبير عن معاناتهم.

ويشير متحدث باسم الجمعية إلى أن دور المحيط مهم في دعم الشباب الذين يمرون بالمحن. وتعتبر فترة الشباب فترة هشة جدا من الناحية النفسية، كما يقول جواد مبروكي، خاصة أن الشباب يعيشون ظروفا صعبة دراسيا واجتماعيا واقتصاديا وبالتالي يعيشون الإحباط والكبت وهم معرضون إلى مرض الاكتئاب. ويضيف مبروكي أنه مع غياب سهولة اللجوء إلى العلاج تتفاقم حالتهم وتصل في بعض الأحيان إلى الانتحار.

وشكلت المنصة التي أطلقتها الجمعية عبر خدمة الشات “أوقفوا الصمت” أول فضاء سري ومجاني على الإنترنت للاستماع إلى شباب المغرب، وتعتبر خدمة استماع إيجابية دون إعطاء أحكام وتتمحور بالخصوص حول شخصية الشاب، مع احترام تام للخصوصية.

وتنصح جمعية “ابتسامة رضا” بضرورة الاستماع إلى الأطفال وتشجيعهم على البوح خصوصا أن أعراض الخجل والانطواء والاكتئاب أو الانهيار العصبي والإدمان يمكن التعرف عليها والتدخل على إثرها لتقديم المساعدة في الوقت المناسب وتجنب حدوث الأسوأ.

في حين شدد مبروكي على أن المجتمع المغربي في حاجة إلى التحسيس بخطورة الانتحار حتى يتعامل معه بكل جدية، مطالبا القائمين على مرفق الصحة العمومية بوضع برنامج متكامل للوقاية وتوفير كل أجهزة علاج الأمراض النفسية.

أرقام غائبة

لا توجد إحصائيات رسمية ودراسات ميدانية حول حوادث الانتحار في المغرب، إلا أن بعض الأرقام غير الرسمية صادمة. وتتجنب السلطات الرسمية توثيق ظاهرة الانتحار في المغرب، لكن آخر تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية حول الانتحار وصدر سنة 2014 يذكر أن عدد حالات الانتحار في المغرب تضاعف ما بين سنتي 2000 و2012 بنسبة 97.8 بالمئة، حيث انتقل معدل حوادث الانتحار من 2.7 لكل مئة ألف سنة 2000 إلى 5.3 لكل مئة ألف سنة 2012.

وليس الأمر مقتصرا على المغرب في إتاحة البيانات الخاصة بالانتحار، فقد أشارت دراسة أصدرتها منظمة الصحة العالمية سنة 2014 إلى أنه لا يوجد سوى 60 دولة فقط من الدول الأعضاء، تتوفر لديها بيانات جيدة عن تسجيل الأحوال المدنية يمكن استخدامها مباشرة لتقدير معدلات الانتحار.

غياب استراتيجية وطنية لمقاومة ظاهرة الانتحار
غياب استراتيجية وطنية لمقاومة ظاهرة الانتحار

وقالت جمعية “ابتسامة رضا” إن أعداد المنتحرين في 2012 بلغت 1628 حالة، موضحة أن 80 بالمئة منهم رجال، ومؤكدة أن 14 بالمئة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة يصرحون بأنه كانت لهم نزعات انتحارية، ويمثل الرجال 87 بالمئة من هؤلاء المنتحرين بنحو 1431 حالة انتحار، و198 حالة فقط للنساء.

ولوحظ حسب تقرير منظمة الصحة العالمية ارتفاع نسبة الإقدام على الانتحار في فئة المسنين، بتسجيل معدل 14.4 حالة من كل مئة ألف مسن في سنة 2012، فيما لم تتعد النسبة الخمسة من كل مئة ألف في باقي الشرائح العمرية، وتضيف المنظمة أن ثلاثة ملايين مغربي يتمنون الموت بفعل انتشار نسب البطالة والفقر والاكتئاب، علاوة على محاولات الانتحار الفاشلة، التي تفوق أعداد المنتحرين السالفة.

وبينت آخر الأرقام الصادرة عن مصالح الدرك الملكي أنه خلال السنوات بين 2009 و2013، عرفت القرى والبوادي 2894 حالة انتحار، بين محاولات تمت ومحاولات فاشلة، والرجال هم الأكثر انتحارا في المناطق القروية بالمغرب بنسبة 66 بالمئة، بينما تبلغ نسبة النساء المنتحرات 21 بالمئة، فيما بلغت نسبة انتحار الـقاصـرين 13 بالمئة.

وأصبحت الظاهرة منتشرة بشكل ملحوظ في مدن الشمال لعدة أسباب، وحسب مهتمين بالصحة العقلية والنفسية في المنطقة، المشكل هو أن كل عمليات الانتحار التي حصلت وقعت خارج أسوار المستشفيات سواء الرازي بتطوان وطنجة أو مستشفى ادرار بشفشاون، وبالتالي سجلات المستشفى لا تملك أي إحصائيات أو سجلات للأشخاص المنتحرين.

شفشاون عاصمة الانتحار

تظل مدينة شفشاون شمال المغرب من أكثر المناطق التي تسجل حالات انتحار، ولوحظ أن كل أسبوع تقريبا يتم الإبلاغ عن حالة انتحار جديدة، وفي هذا الإطار أقدمت تلميذة تدرس بالقسم الخامس من التعليم الابتدائي، مؤخرا، على الانتحار شنقا بدوار تيفوزال بجماعة باب تازة في إقليم شفشاون، كما وضعت امرأة متزوجة حدا لحياتها شنقًا، بدوار الواديين بجماعة باب برد في الإقليم ذاته، وهو ما رفع حالات الانتحار في الإقليم إلى 8 حالات منذ بداية 2019.

وعرف نفس الإقليم في السنة الماضية 29 حالة انتحار. وظاهرة الانتحار التي يعرفها الإقليم تدخل، حسب باحثين من مرصد الشمال لحقوق الإنسان، ضمن ما يسمى في الدراسات السوسيولوجية بـ”الانتحار اللامعياري”، وهي ظاهرة تحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع نتيجة الكساد الاقتصادي أو الانتعاشة الاقتصادية.

تعتبر فترة الشباب فترة هشة جدا من الناحية النفسية، كما يقول جواد مبروكي، خاصة أن الشباب يعيشون ظروفا صعبة دراسيا واجتماعيا واقتصاديا وبالتالي يعيشون الإحباط والكبت وهم معرضون إلى مرض الاكتئاب

ووجهت نائبة برلمانية سؤالا كتابيا إلى وزير الصحة حول ارتفاع ظاهرة الانتحار بشفشاون، مشيرة إلى أن هذا الإقليم يعرف أعلى نسبة في الانتحار على المستوى الوطني، مطالبة بفتح أبواب مستشفى الأمراض العقلية بشفشاون، والرفع من طاقته الاستيعابية، مشددة على أن علاج هذه المعضلة يجب أن يكون طبيا ونفسيا قبل أن يكون اجتماعيا.

هذا في حين ألقى مرصد الشمال لحقوق الإنسان بالمسؤولية على “سياسات الحكومات المتعاقبة على المنطقة من خلال المقاربة الأمنية فقط، مع تهميش كلي للمقاربة التنموية”، مسجلا غياب أية مبادرة من الجماعات الترابية والمجلس الإقليمي وعمالة شفشاون، مقابل بعض المبادرات لعدد من الفعاليات الجمعوية بالمنطقة، من أجل دق ناقوس الخطر حول ظاهرة الانتحار.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: