“الملحون” نظم منفلت من الفصحى سافر للأندلس وعاد مع الموريسكيين

صدق من قال “لا وطن للفن”، وأنه بأبعاد جمالية سريعة الانفلات لا يستقر في مكان محدد، وأنه موروث الأجيال الخالد مهما تباعدت البلاد بين الأمم والأقوام. وهذا ينطبق على فن غنائي يعرف في المغرب بـ”الملحون”، وهو عبارة عن نظم شعري عامي منفلت من الفصحى.

كان يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين، يدرب جنوده على السباحة في مسبح المنارة بمراكش حتى يستطيعوا العوم والعبور لنجدة أشقائهم العرب في الأندلس، تلك النجدة، الاستجابة، التي تشهد عليها معركَة الزَلاّقَة أو معركة سهل الزلاقة عام 479 هـ. وقبل انطلاق بن تاشفين إلى المعركة، كان على جوانب المسبح بمدينة النخيل رجال ينظمون كلاما متداخلا بين الأمازيغية والعربية يرَوِّحُون ويرفهون به عن الجند، وكان من العارفين من يصف كلامهم ذاك بـ”الملحون” لعدم احترامه قواعد اللغة العربية.

يقول الدكتور عبدالوهاب الفيلالي، أستاذ بكلية الآداب بفاس، إن فن الملحون في قيمته الفنية هو فن شعري إنشادي غنائي متميز، وقد يكفي السامع سماعه في البحث عن بواعث ومظاهر قيمته الفنية وكوامنه الجمالية، إذا كان شعور جل أو كل المتلقين، وإن من الدواعي الأكيدة عند الباحث في فن الملحون رصده تلك البواعث والتجليات، وتفحصها بعناية تامة حتى نكتشف أسرار قوة تأثيرها الفني في السامع المتذوق.

ورغم أن الملحون، الذي عبر البحر الأبيض المتوسط مع المرابطين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث الأندلس العربية حينذاك، وتغنت بكلماته المنظومة زجلا النساء الموريسكيات في قصور ملوك بني أمية في ليالي الأنس والسمر، إلا أنه حسب بعض النقاد المغاربة الذين يبحثون في جذور تاريخية الملحون، الفنية والجمالية، ومنهم الباحث عبدالمجيد فنيش، بمثابة كلام موزون تصاحبه موسيقى تقليدية مغربية محلية تعتمد آلة “السويسي” و”الربابة” الوتريتين، إضافة إلى الآلة الإيقاعية التقليدية التي تعرف في المغرب بـ”الطعريجة”، فترى المنشدين جماعة يرددون “اللازمة”، وهي الجملة الموحدة التي يحافظ العازفون على الآلات الموسيقية على ترديدها بصوت جماعي موحد.

من مظاهر الاعتناء بالملحون حاليا في المغرب، إصرار بعض جمعيات المجتمع المدني على تنظيم ملتقيات ومهرجانات خاصة بهذا الفن

وعن تلك الوحدة المنسجمة في ترديد أغنيات الملحون المبنية على الشعر العامي القريب إلى العربية الفصحى من غير احترام لقواعد الإعراب فيها، يؤكد عبدالكريم الفلالي وهو عازف على آلة الوتار بنوعيه الأطلسي الكبير وصغيره السويسي، في تصريح لـ”العرب”، أن فن الملحون يوازي نظيره الطرب الغرناطي، المعروف في المغرب بالطرب الأندلسي أو طرب الآلة، وهو فن يجلس إلى منصته في الحفلات الخاصة والعامة، رجال يلبسون جلابيبهم المغربية البيضاء وبلاغيهم الجلدية الصفراء وطرابيشهم الحمراء، وهم ينخرطون جماعة وفرادى يرددون كلاما موزونا مقفى، وإن لم تُحترم فيه اللغة العربية الفصحى، لكنه ينساب إلى وجدان المستمعين الحاضرين للحفل مطربا إياهم يشد أسماعهم.

فالملحون كلام “معسول جميل موزون”، يعلق الحاج عبدالكريم الفيلالي الذي قضى عمره كله في الغناء ونظم القصائد، مؤكدا لنا أن تسمية “الملحون” تعود إلى كونه شعراً يصدر عن صاحبه ملحنا بحكم وجود ضوابط عروضية وميزانية تحتم على الشاعر الناظم، أن يقول على منوالها كلاما ملحنا منذ الوهلة الأولى.

ومن المغرب، سافر شكل من منظوم كلام أهله الدارج على لسان العامة إلى بلاد الأندلس، الذي حدد النقاد والدارسون اصطلاحه بفن الملحون، وصل إلى بلاد الأندلس مع المرابطين ثم عاد مع الموريسكيين مصحوبا بـ”الطرب الغرناطي”، هذا الأخير الذي تصاحب نغماته الموسيقية الطويلة “لاءات وهاهات” يكاد المستمع إليها يرتخي وينام، عكس الملحون الذي يشعل المشاعر بقصائده ذات البناء القصصي المشوق، في مواضيع الحب والهجر والجفاء، التي تشد السامع إليها كلماتها المصحوبة بنغم الوتر، يقظا متشوقا لسماع الخاتمة.

وتصف مصادر “العرب” مدن الملحون، فاس ومكناس وسلا ومراكش والعاصمة الرباط، بكونها المدن ذات الريادة في انتشار فن الملحون وازدهاره، وحيث يوجد عدد من الزجالين الناظمين لقصائد الملحون المشهود لهم بالفنية والإبداع، حتى أنهم ارتفعوا إلى مرتبة الشيوخ، منهم التهامي المدغري وقدور العلمي والجيلالي متيرد ومحمد بن علي ولد الرزي ومحمد بن سليمان وأحمد الغرابلي ومحمد الكندوز وإدريس بن علي، وآخرون كُثر بصموا تاريخ الفن الملحون التراثي ببصماتهم الخالدة في الذاكرة الفنية.

ومن مظاهر الاعتناء بالملحون حاليا في المغرب، إصرار بعض جمعيات المجتمع المدني على تنظيم ملتقيات ومهرجانات خاصة بهذا الفن، سواء كانت ذات طابع رسمي كمهرجان سجلماسة للملحون، الذي تنظمه سنويا وزارة الثقافة، أو حفلات ولقاءات شعبية تقليدية كتلك الأمسيات الأسبوعية التي ينظمها المولعون بهذا الفن في بيوتهم بالتناوب ليلة كل جمعة. والسبب في اختيار ليلة الجمعة هو أن كل المنتمين لعائلة هذا الفن كانوا في الماضي من الصناع التقليديين الذين كان يوم عطلتهم الأسبوعية يوم الجمعة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: