سيرة لوحة مغربية

بين معرض الفنان الفطري المغربي محمد بن علي الرباطي، وهو الأول من نوعه لفنان مغربي والذي استضافته إحدى القاعات اللندنية سنة 1916 وآخر عمليات البيع بالمزاد التي صارت تحتضنها صالونات كبرى بالبلد، مستقطبة كبار الأثرياء المهووسين باقتناء اللوحات، وبين وفاة الفنان المغربي الجيلالي الغرباوي مشردا بحديقة شان دو مارس، بباريس، خلال بداية السبعينات، وتحقيق لوحاته أرقاما قياسية على مستوى الأثمنة، سنوات بعد وفاته، ثمة مسار طويل حافل بعلاماته ومحطاته. استحضار جانب من هذه المحطات ليس بالضرورة كتابة لتاريخها، ذلك لأن أغلب صانعي هذه المحطات ما زالوا أحياء يمارسون التشكيل، وذلك وجه آخر لحركة التشكيل بالمغرب الذي يظل تجربة حديثة.

وبذلك، سيشكل المنتصف الأول من القرن الماضي لحظة تكون الملامح الأولى للفن التشكيلي بمفهومه الحديث بالمغرب، وذلك باعتبارها نقطة لقاء بين التراكم الذي حققه المغاربة على مستوى مختلف الفنون البصرية العريقة وبين اطلاعهم على الفن التشكيلي كما يمارسه الآخر، بفضل وضع المغرب كمقصد لعدد من الفنانين الغربيين، ومن بينهم خصوصا دولاكروا، وماتيس، وماجورين، وفورتوني، وجون ليفري.

وتبرز في هذا الإطار التجربة المبكرة للفنان المغربي محمد بن علي الرباطي الذي استطاع تنظيم معرضه الأول المنظم بالعاصمة البريطانية سنة 1916، ثم معرضه الثاني في فرنسا سنة 1919. وخارج هذه التجربة الاستثنائية، سينتظر المغرب عقدا من الزمن ليظهر فنانون آخرون.

تجارب تشكيلية احتفظت بطابع عام يحكمه انتماؤها إلى عالم “فطري"
تجارب تشكيلية احتفظت بطابع عام يحكمه انتماؤها إلى عالم “فطري”

وتندرج في هذا الإطار تجارب فنانين كعبدالسلام بن العربي الفاسي والجيلالي بن شلار ومحمد المنبهي ومولاي أحمد الإدريسي ومحمد بن علال، الذي استطاع أن ينظم معرضا فرديا بواشنطن خلال الخمسينات من القرن الماضي.

وإلى جانب الأهمية التاريخية لهذه التجارب، فإنها احتفظت بطابع عام يحكمه انتماؤها إلى عالم “فطري”، من علاماته الحضور القوي لتفاصيل الحياة اليومية البسيطة ولامتدادات الفنون البصرية العريقة بالمغرب.

وبشكل مغاير لذلك، شكل تأسيسُ مدرسة الفنون الجديدة بتطوان سنة 1945 ومدرسة الفنون الجديدة بالدار البيضاء بداية مسار يحتفظ بطابعه المختلف، والذي من علاماته الوعي بأسئلة التشكيل وبعلاقاتها بالمكون الثقافي والسياسي أحيانا. وهو وعي تُميز الأدبيات داخل امتداداته بين مستويين. يتسم الأول بالواقعية الأكاديمية ذات الطابع الإسباني، التي ميزت أسلوب جماعة الشمال والتي من بين روادها محمد السرغيني ومريم أمزيان والفقيه الركراكي وبنيسف، ثم عبدالكريم الوزاني، الذي تتميز أعماله بحمولتها الطفولية العميقة وخليل غريب. بينما يتسم المستوى الثاني “باجتياح رجات رياح الستينات والسبعينات الأيديولوجية والسياسية لمجموعة الدار البيضاء منذ حركة 65″، وهو من الفنانين الذين أنجبتهم مدرسة الدار البيضاء.

وخارج هذه الجغرافيا التشكيلية، كان فنانان آخران هما أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي يؤثثان فضاءهما الإبداعي الخاص بكثير من الاختلاف، حيث تعتبر تجربتاهما تدشينا للتجريدية التي ستطبع تجارب مغربية أخرى منذ الخمسينات، وذلك بالرغم من وفاتهما المبكرة، فالشرقاوي لم يكمل الثالثة والثلاثين من عمره، بينما توفي الغرباوي في الـ41. وتبدو سيرة أحمد الشرقاوي، كنموذج رغم قصر فترتها الزمنية، حافلة بعلاماتها الدالة، فقد ولد بمدينة صغيرة (أبي الجعد) بمنطقة الشاوية المعروفة بتراثها الشفوي والغنائي الغني، وهو من عائلة يعرف أحد أعلامها “محمد الشرقي” كرجل صوفي مشهور. وانتقل الشرقاوي إلى مدينة الدار البيضاء، حيث تابع دراسته الثانوية. وهناك بدأت ملامح تجربته الفنية الأولى كرد فعل على إيقاع مدينة كبرى لم يكن يتسع لأحلام شاب قادم من مدينة روحية بامتياز. وذلك قبل انتقاله للدراسة بفرنسا، ثم ببولونيا.

وشكلت المحطتان معبرا لبحث أحمد الشرقاوي عن أسلوبه الخاص الذي يشكل، حسب الأدبيات، نقطة لقاء بين الفن الشعبي المغربي والأساليب التشكيلية الغربية الحديثة. وهو ما سيعمقه بشكل أكبر بعد عودته المؤقتة إلى المغرب، حيث سيعيش الشرقاوي حرقة أسئلة الثقافة الوطنية وهاجس البحث عن مسار مختلف، كان من امتداداته توظيفه الدال والكبير للرمز في أعماله الجديدة.

عرفت سنوات التسعينات وبدايات الألفية الجديدة ظهور أسماء جديدة، مع استمرار الأسماء السابقة وسعي بعضها إلى خوض تجارب مغايرة، بشكل يغني المشهد التشكيلي المغربي باستمرار

وبخلاف التجربة الفردية التي خاضها الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي، عرفت الستينات والسبعينات انبثاق تجربة الاشتغال الجماعي الذي تؤطره أسئلة مشتركة. وارتبطت هذه التجربة أساسا بما يعرف بجماعة 65، التي ضمت بشكل أساس كلا من محمد شبعة ومحمد المليحي وفريد بلكاهية. ويعتبر محمد شبعة تأسيس هذه الجماعة كتتويج للنقد الذي كان يوجهه أعضاؤها آنذاك، سواء إلى النزعة التحديثية القريبة من المدرسة الفرنسية، أو إلى الجماعة المتأثرة بالمدرسة الإسبانية. وهمت طروحات جماعة 65 مسألة الرجوع إلى التراث وإعادة الاعتبار إليه بعيدا عن ما يسميه محمد شبعة بمسخ الإبداعات التقليدية والفن الشعبي الممارس. كما تميزت تجربة جماعة 65 بحوارها مع المثقفين والشعراء، وخصوصا المنتمين منهم إلى مجلة أنفاس التي كان يصدرها الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي.

وإذا كانت جماعة 65 قد ارتبطت بفضاء المنتصف الثاني من الستينات وسنوات السبعينات، بحمولته الأيديولوجية وصراعاته السياسية، فقد شكلت العقود اللاحقة لحظات مغايرة، اتسمت بتراجع نسبي للسياسي. وهو الأمر الذي همّ مختلف أشكال التعبير الأدبي والفكري والفني بالمغرب. وشكلت هذه اللحظات بذلك فضاء لاختلاف يؤسسه انحصار الوعي الجماعي والتعدد الكثيف للتجارب والأسماء وتباين مرجعياتها وأدوات اشتغالها، بشكل يصعب معه وضع جغرافية ثابتة ونهائية للممارسة التشكيلية بالمغرب.

وفي هذا السياق، تبرز تجربة الفنان الراحل محمد القاسمي المطبوعة بشكل عام بتعبيريتها التجريدية والحافلة أيضا ببحثها المستمر عن طرق جديدة للإبداع وعن خلق المفاجأة.

كان القاسمي ينصتُ جيدا لأصوات التاريخ دون أن يضل حبيسها. يقرأ الأحداث بطريقته دون أن يفتعل البطولة. معرضه الأخير “الإبداع ضد التدمير”، المنظم برواق المنار بالدار البيضاء، قبيل وفاته، شهادة عن موقفه الرافض للحرب على العراق. وقبل ذلك، كان القاسمي قد أصدر رفقة الشاعر المغربي حسن نجمي كتاب “الرياح البنية” ضدا على تداعيات حرب الخليج. كما تشكل لوحته التي تم عرضها بأحد شواطئ بنين، حيث كان يتم شحن العبيد إلى أميركا، شهادة أخرى دالة عن انتماء تجربة القاسمي الإبداعية إلى لحظتها الإنسانية الممتدة داخل التاريخ.

تجارب تعبيرية تجريدية
تجارب تعبيرية تجريدية

وبخلاف التجربة التعبيرية التجريدية لمحمد القاسمي، يشكل توظيف الحرف العربي مجالا لاشتغال عدد من الفنانين التشكيليين المغاربة. ويميز الناقد المغربي فريد الزاهي بين مستويين لهذا التوظيف. ينحصر الأول في اعتماد الطبع الزخرفي والتناول البصري الهش للظواهر البصرية الحضارية، بشكل يجرد الحرف العربي من قيمته الجمالية المرتبطة برمزيته وبمرجعيته الحضارية. بينما يقوم المستوى الثاني، الذي يعتبره فريد الزاهي امتدادا لاشتغال أحمد الشرقاوي على العلامات والرموز، لإدخال أبعاد جديدة في التجربة المغربية. ويندرج في هذا الإطار، بشكل خاص، محمد موسيك ومصطفى السنوسي وإبراهيم حنين والمهدي قطبي. وذلك بالإضافة إلى عبدالله الحريري، الذي ستكون أعماله أكثر حضورا على أغلفة الكتب، وخصوصا الصادرة منها عن دار توبقال، التي كان قد أسسها الشاعر المغربي محمد بنيس.

في مقابل ذلك، عرفت سنوات التسعينات وبدايات الألفية الجديدة ظهور أسماء جديدة، مع استمرار الأسماء السابقة وسعي بعضها إلى خوض تجارب مغايرة، بشكل يغني المشهد التشكيلي المغربي باستمرار.

يبقى أن الوقوف عند تجارب أو أسماء معينة أو تصنيف الفنانين ضمن تيارات فنية أمر غير يسير، لأن التجارب تخوض سفرا مستمرا، بحثا عن جمالية قد تتحقق أو قد لا تتحقق، في زحمة فيضان الأعمال التي تجتاح المشهد التشكيلي بالبلد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: