المشهد الجزائري والرؤية التفصيلية

بعد أن أنجز الحراك الشعبي الجزائري، مهمته الأولى والأساسية، وهي إجبار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على التنحي؛ بدأت المعركة الأصعب، ولم يغب هذا عن بال أحد، لأن اختزال حال التردي في شخص بوتفليقة، وفي مشهد رجل مقعد ومتقدم في السن، أسهل بكثير من التشخيص التفصيلي لجميع عناصر الانحراف والتردي التي عششت طويلاً وتضخمت في ثنايا الدولة وفي ظل الرجل، لاسيما منذ أن أصيب بالجلطة الأولى في نوفمبر عام 2005. فعندما يكون الشعار، الإطاحة ببوتفليقة، بمعنى الإطاحة بمن يحكمون باسمه، يكون التعاطف مع الحراك الشعبي مؤكدا إقليميا ودوليا وعلى صعيد المجتمع الجزائري، وهذا ما حدث لاسيما داخل الخارطة السياسية والحزبية الجزائرية، عندما انحاز رموز الدولة العميقة ورموز الحزب الحاكم نفسه، للحراك الشعبي، وأظهروا تأييداً واضحاً لمطالب الشعب التي عجزوا عن تلبيتها بحكم طغيان الفئة المتنفذة في البلاد.

أما الآن، فإن المسألة أصبحت تتعلق بالكثير من هؤلاء، وفي حال ظلت أو تجددت أدوار هذه الفئة، الممسكة بمفاتيح الدولة العميقة، فإن الحراك الذي أطاح ببوتفليقة، يكون قد فعل عكس أهدافه، وأعاد الحيوية لمن ظلموا الشعب، وحقق التجدد والرشاقة التي كانت تفتقدها الحاشية ومراكز القوى في ظل بوتفليقة. وللإنصاف، لم يكن الرجل شخصياً، يفعل لنفسه أو لحياته شيئاً!

كان هدف الإطاحة ببوتفليقة، محض عنوان سياسي عريض، للحراك الشعبي الذي بدأ يوم 22 فبراير الماضي. وشتان بين العنوان السياسي العريض والعناوين السلطوية التفصيلية. بالتالي فإن مطالبة الحراك بمحاسبة شخصيات النظام النافذة ومن ثم رحيلها، تحتاج إلى عصبية سياسية جديدة، يكون لها بدورها، رؤيتها التفصيلية، وهذا احتياج أو متطلب، لا يملكه الحراك الشبابي، ولا يتيحه للجزائريين إرث الدولة السياسي، ولا يجدي معه إرث جبهة التحرير الوطني، بحكم اختلاف الزمن والغايات المرجوّة. فلا أحد يمتلك الآن، إجابة عن أسئلة المسار الذي سوف تتجه إليه الأحداث. لذا تتعدد الاقتراحات وتصطدم المقاربات. وفي كل مقاربة أو اقتراح، هناك من يفتش على مسارات فرعية للنجاة، بعد القفز من سفينة بوتفليقة.

وفي السياق كله، لا يكفى القول إن المرتجى هو الذهاب إلى جمهورية ثانية. فهناك من يرى ميلاد هذه الجمهورية من خلال إنفاذ الخطوات الدستورية بعد تطبيق المادة 102 والذهاب إلى انتخابات رئاسية خلال 90 يوماً.

بالمقابل يرى آخرون، أن التوجه إلى جمهورية ثانية يتطلب البدء بخطوات غير مسبوقة، كأن يتشكل مجلس رئاسي انتقالي، يبدأ التحضير لانتخابات عامة، رئاسية وتشريعية. لكن المعضلة التي ستواجه أي محاولة لتلبية مطالب الشارع، تكمن في وجود شخصيات نافذة، ستصبح أكثر نفوذاً في حال لقيت الدعم من الجيش. ويخطئ من يظن أن بالإمكان، بقاء مهمة الجيش في هذه السيرورة، مقتصرة على ضمان تطبيق التدابير الدستورية. فمن المؤكد أن يكون للجيش دوره في صياغة المستقبل السياسي، سواء كان هذا الدور ظاهراً أو مستتراً.

التوجه إلى جمهورية ثانية يتطلب البدء بخطوات غير مسبوقة
التوجه إلى جمهورية ثانية يتطلب البدء بخطوات غير مسبوقة

فالجيش، كما في هذا النمط من الدول، يظل القوة المنظمة التي لا تضاهيها قوة، ولا يمكن لمثل هذه القوة المسلحة التي تمتلك القدرة على الإكراه السياسي، أن تسلم نفسها لآخرين حتى بنتائج انتخابات حرة. فالجيش يدرك أن أي تيار سياسي من شأنه أن يغير بشكل جوهري وجهة الدولة، وعلى النحو الذي سترى فيه القوات المسلحة تهديداً لوحدة البلاد والسلم الأهلي. ذلك لأن القوى السياسية ذات الأيديولوجيات، أياً كانت، لن تكتفي بالحصول على فرصتها في إدارة حياة المجتمع من خلال حكومة ذات عهدة زمنية محددة دستورياً، ثم تعود مرة أخرى إلى رأي الشعب، وفق مبدأ التداول على السلطة. فالقوى الأيديولوجية تسعى دائماً إلى الفوز بالدولة، وليس إلى الفوز بالحكومة والتداول عليها. والانتخابات عندها لمرة واحدة، ما لم تكن في البلاد قوة معتبرة للمجتمع المدني وللأحزاب السياسية كما في تركيا ذات النمط المختلف. فإن لم يكن هذا الاعتبار، هو الوارد جدياً وعن قناعة في ذهن القوات المسلحة، فإنه سيؤخذ ذريعة، ما يعني أن الإبقاء على دستور الدولة كما هو، سيكون ضمانة الانتقال السلمي للسلطة. وإن كان ثمة تفكير في تعديلات دستورية، تتعلق بالبنود الإجرائية، فلا يصح ذلك إلا بعد فترة اختبار لفاعلية النظام السياسي وقدرته على استيعاب حيوية المجتمع وبعد اختبار أداء القوى الأيديولوجية وممثليها، عند ممارسة الحكم أو المشاركة فيه، لأن بعض التجارب العربية دلت على وجود فارق كبير بين الكلام النظري والممارسة.

ففي غزة مثلاُ، دخلت الجماعة الأيديولوجية التي تمثل “الإخوان” الانتخابات وفازت فيها، وكان خطابها الدعائي يركز على “القويّ الأمين” وعلى الزهد والتقوى والسماحة واحترام الشعب وأخلاق المسلمين وعلى المقاومة التي لا يمكن أن تتثاءب أو أن تتراجع، بصرف النظر عن كل الأحوال الاجتماعية الاقتصادية والحسابات، ثم اتضح في الممارسة عكس هذا الكلام كله، فكان البذخ في بلد فقير وخاضع للحصار والاحتلال، ولم تكن سيارات ومصاريف المسؤولين في غزة، تقل عن مصروفات أندادهم في العالم الأول المترف، وكانت القبضة الأمنية تبطش بالمعارضين، وكانت إدارة الظهر للوثيقة الدستورية والتهرب من أي محاولة للعودة إلى صناديق الاقتراع بأي صيغة، ثم كان- بعد تضييع كل شيء- التوصل إلى تهدئة مقابل كلام فارغ.

الأحزاب السياسية الجزائرية واكبت الحراك الشعبي لكنها لم تصنعه ولم تتحكم في مساره ولم تكن صاحبة حقوق الملكية في صياغة شعاراته. وبحكم عدم وجود عنوان حصري ومحدد، للحراك سوى كونه الشارع؛ فقد وجّه الرئيس بوتفليقة رسالة إلى الجزائريات والجزائريين، يعتذر لهم من خلالها، ويتوسل ضمناً عدم محاسبة أركان حكمه وعدم مساءلته، كأنما أراد في رسالته أن يجيب على دعوات قوية في هذا الاتجاه، أو أن يستبق الجمعة الثامنة، وهي “جمعة القصاص” التي دعا إليها الشارع، للمطالبة بمحاسبة رجالات العصبية المالية المتغولة من رجال الأعمال والمتورطين في قضايا نهب المال العام، واستغلال النفوذ. وبدا أن بوتفليقة، قد أساء اختيار رئيس الحكومة في مقاربته الأخيرة وهو يحاول الإمساك بخيط من عملية انتقال السلطة. فالشارع يطالب برحيل نورالدين بدوي، ولا يقبل بعبدالقادر بن صالح، كرئيس انتقالي للدولة حسب الدستور. ولعل ما يبعث على القلق هو التصاعد اللافت في لهجة الشارع، وكان من سماته التركيز على صفات “الخَونة” و”القضاة المزيفين”. فمع تصاعد هذه الحدة، تقدم الجيش من خلال رئيس الأركان، خطوات نحو استرضاء تام للحراك، وقد تدبر لنفسه هتافاً شبابياً وسط الحراك، يؤكد على الأخوّة بين الجيش والشعب.

على الرغم من ذلك، لا تزال الأمور صعبة والطريق إلى استقرار البلاد، محفوفة بالمفاجآت وربما يتطلب الأمر جراحة طويلة، دون أن يُعرف حتى الآن، كيف تُجرى وفي أي المواضع!

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: