الجزائر على صفيح ساخن: الدولة العميقة تفجر الوضع بدل تهدئته

تكشف التطورات في الجزائر عن عمق الأزمة في هذا البلد، التي تسببت فيها حكومة تسيطر عليها نخبة سياسية تعيش بعيدا عن واقع المواطنين، ودولة عميقة تخشى أي زلزال يمكن أن يحرّك الأرض الصلبة التي تقف عليها منذ استقلال البلاد في ستينات القرن الماضي. وبين هذا وذاك تقف أغلبية انفجرت غضبا ولم يعد من الممكن تهدئتها بحلول مؤقتة ومهدّئات الجميع يعرف أنها ستطيل عمر الأزمة ولن تحلها. وإذا كان الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة قد ألغى ترشحه لولاية خامسة، فإن النخبة التي تدير شؤون البلاد من وراء الستار ستعمل جاهدة على أن تبقي قواعد النظام كما هي، الأمر الذي يرفضه الجزائريون الذين يتطلعون إلى تغيير شامل من العقلية السياسية إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

  في أوج غضب الشارع الجزائري، أعلن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عن سحب ترشحه لولاية رئاسية خامسة، ولكنه أرجأ الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في 18 أبريل، ما يعني أنه سيظل على الأرجح في السلطة لبعض الوقت وستمنح الفترة الانتقالية الحرس القديم الوقت لإعادة ترتيب الصفوف وضبط الوضع وفق المتغيرات.

وتباينت ردود الفعل الجزائرية حول قرارات الرئيس بوتفليقة بين القبول والرفض، فيما يتابع جيران الجزائر والمجتمع الدولي بحذر ما يجري في هذا البلد مترامي الأطراف الذي تتقاطع فيه مصالح استراتيجية لقوى دولية مختلفة، ويتوسّط جارتان تمران بأوضاع أمنية وسياسية غير مستقرة، هما ليبيا وتونس.

يتوق الجزائريون، خاصة الشباب، إلى تغيير شامل، لا ينكر ما حققه جيل الاستقلال لكنه لا يريد أن يبقى رهين حرسه الذي يخنق البلاد. ولعل ذلك ما يفسر تواصل الاحتجاجات رغم تراجع بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسة. فالأمر لم يعد يتعلق بالرئيس المريض بل تطور إلى احتجاج شعبي على حال الجزائر التي تشهد أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية متردية.

لذلك، عوض أن يهدّئ إعلان بوتفليقة الأوضاع زاد في تأجيجها من خلال التعديلات على تشكيلة الحكومة وتنظيم الاستحقاق الرئاسي عقب الندوة الوطنية المستقلة تحت إشراف حصري للجنة انتخابية وطنية مستقلة.

ويؤكد المحلل السياسي الجزائري أحمد عظيمي، أن “قرارات بوتفليقة غير مؤسسة ومخالفة للدستور الجزائري، الذي لا يمنح الحق لرئيس الجمهورية في توقيف المسار الانتخابي، إلا في حالة الحرب، وهذا ما لا تعيشه الجزائر، حيث أن حراك الشارع سلمي لا يهدد أمن الدولة ولا استقرارها”.

وقال عظيمي، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية، إن مضمون ما بعث به بوتفليقة لشعبه، يشبه حدّ التطابق مع رسالته التي وجّهها للأمة في 15 أبريل 2011، مشيرا إلى أن “من يتحقّق من ذلك سيدرك أنه لا يوجد أي فرق بين ما أراد إيصاله قبل 8 سنوات واليوم”.

ولأول مرة منذ سنوات طويلة، يتوفّر مسار، وإن كان ضيقا، أمام الجزائر لتتحرر من قيود كثيرة تكبل اقتصادها وسياستها ودبلوماسيتها، ويمكن لانتقال سياسي أن يفسح المجال أمام خطط جديدة موجهة نحو إصلاح البنية الهيكلية للبلاد، بالإضافة إلى أساليب أكثر واقعية لتعديل أنظمة الاستثمار الأجنبي والتعامل مع مشكلات الشباب والمحافظات النائية التي تشعر بالتهميش.

ويتوق الجزائريون إلى هذا التغيير، لذلك فشلت رسالة بوتفليقة في أن تلقى صدى أو تخفف من ضغط الشارع وغضبه. ويبدي أحمد عظيمي استياءه مما وصفه بـ”كمية الاستخفاف التي حملتها الرّسالة إلى الشعب الجزائري، حيث تجاهلت مرة أخرى مطالب الشعب الغاضب”.

واعتبر القرارات التي خرج بها بوتفليقة “مجرد محاولة فاشلة للالتفاف على الإرادة الشعبية بالتغيير الوهمي”،

مشيرا إلى أن “استخدام مصطلح العدول عن الترشح للعهدة الخامسة ضحك على ذكاء الجزائريين الذين فهموا اللعبة السياسية”.

ويذهب في ذات الموقف الرافض المحامي الجزائري، مصطفى بوشاشي، الذي يعتبر من أبرز نشطاء الحراك الشعبي الرافض لترشّح بوتفليقة، مشيرا في تصريحات صحافية إلى أن القرارات المعلنة من قبل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، تبدو في ظاهرها استجابة للإرادة الشعبية، لكنها تستبطن “التفافا” عليها.

ويؤكدّ بوشاشي أنّ “الاحتجاجات ستتواصل والجزائريون شعروا بالإهانة”. وبالنسبة إليه، فإن “الإهانة الأولى تمثلت في تجرّؤ الرئيس على مخاطبة الشعب بعد غيابه قرابة السبع سنوات، وثانيها أنّ السلطة تجرأت أيضا على الاستخفاف بذكاء هذا الشعب”.

قنبلة موقوتة

المحتجون يتطلعون إلى تغيير لا يقوده الحرس القديم
المحتجون يتطلعون إلى تغيير لا يقوده الحرس القديم 

عانى الاقتصاد الجزائري، الذي يعتمد بشكل كبير على عائدات الطاقة، من تباطؤ ناتج عن انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي منذ سنة 2014، والانخفاض في طلب جنوب أوروبا على الطاقة. ولم ينتعش الاقتصاد الجزائري من هذه النكسة بعد.

وساهم ذلك في زيادة التحديات. وفشلت الحكومة في تمرير إصلاحات طويلة المدى. وبدلا من ذلك، حاولت الاكتفاء بإصلاحات على المدى القصير زادت من ضجر الجزائريين، ليتحول سوء إدارة الحكومة للأزمة الاقتصادية إلى سوء إدارة للبلاد ككل.

ويقول مراقبون إن صانعي القرار في الجزائر تعاملوا مع الأزمة الاقتصادية وما أثارته من غضب شعبي، كما الاحتجاجات الراهنة، من برجهم العاجي وبعقلية بعيدة عن الشارع الغاضب. وشبّه المراقبون البلاد بقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.

ويشير المراقبون إلى أن البلاد تقف على بركان من الأزمات التي يمكن تحريكها لتفجير هذه القنبلة، من ذلك حالة الاحتقان المزمنة في الجنوب والقضية الأمازيغية وبعض المطالب الانفصالية المرتبطة بها، والتي إن كان صوتها ضعيفا فإن الفرصة مواتية الآن لتقويته، ناهيك عن الظرف الاستراتيجي المحيط بالجزائر أفريقيا ومغاربيا ودوليا والأجندات الخارجية التي ستسرع لضمان مصالحها عند الضرورة.

وتضيف التحذيرات إلى ذلك الإسلاميون الذين يترصدّون الفرصة ولن يتوانوا عن استغلالها للانتقام مما حدث في التسعينات حين ألغى الجيش نتائج الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ، وما تلا ذلك من أحداث دموية، كانت إلى وقت قريب تثير مخاوف الجزائريين من تكرارها إلا أنهم اليوم تجاوزوا كوابيسها وهم يعيشون كوابيس أخرى اقتصادية واجتماعية وحقوقية.

ويحث عبدالرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، الحزب الإسلامي الأكبر في الجزائر، على مواصلة الاحتجاج، لأن “الإجراءات التي أعلنها رئيس الجمهورية لا ترقى إلى طموحات الشعب الجزائري الذي خرج بالملايين في مختلف الولايات يطالب بتغيير فعلي”. ويصف مقري هذه الإجراءات بأنها “التفاف على إرادة الجزائريين”، معتبرا أن الغاية منها “تفويت الفرصة التاريخية للانتقال بالجزائر نحو تجسيد الإرادة الشعبية والتخلص نهائيا من النظرة الأحادية الفوقية”.

جيل الاستقلال

هل هي بداية النهاية لسياسة الجزائر المعتادة
هل هي بداية النهاية لسياسة الجزائر المعتادة

بينما تتواصل الاحتجاجات تمضي السلطة الجزائرية قدما في تنفيذ التعديلات التي أعلن عنها بوتفليقة، والتي يشرف على تنفيذها الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي المخضرم الذي لا يبدو أن تاريخه الدبلوماسي سيشفع له لدى المحتجين المطالبين بالتغيير السريع، خاصة أن الإبراهيمي محسوب على النظام القديم، فهو ينتمي إلى الجيل نفسه الذي هيمن على الساحة السياسية في الجزائر منذ حرب الاستقلال عن فرنسا من 1954 إلى 1962، ولا  يمثل الشخصيات التي يمكن أن تجعل الجزائر دولة شابة مليئة بالحيوية والأفكار الجديدة.

ويتزايد شعور الجزائريين بالضجر من الرئيس المريض وغيره من قدامى المحاربين الذين يسيطرون على بلد يعاني من ارتفاع معدل البطالة وسوء الخدمات وتفشي الفساد، الأمر الذي يجعل خطابات من قبيل خطاب الحركة الشعبية الجزائرية (حزب مولاة) لا تجد لها آذانا صاغية، بل إنها في تبريرها للقرارات الرئاسية تزيد من سخط الغاضبين.

ورحّبت الحركة الشعبية الجزائرية بقرارات بوتفليقة لاسيما المتعلقة بتأجيل الانتخابات، معتبرة ذلك “استجابة لمطالب المسيرات الشعبية التي كان مطلبها الرئيسي عدول الرئيس عن الترشح لعهدة رئاسية خامسة وتغيير النظام السياسي”.

وقالت إن هذه القرارات ستساهم بصفة فعالة في تهدئة الأوضاع وتعزيز المسار الديمقراطي في الجزائر، مؤكدة دعمها لكافة الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والكفاءات الوطنية للمشاركة الفعالة في إنجاح الندوة الوطنية الشاملة والمستقلة، والمساهمة في إعداد دستور جديد.

لكن، الوضع على أرض الواقع يبدو مختلفا تماما، خاصة وأن السواد الأعظم يعلم أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مراوغة من أجل ترتيب الصفوف، وحتى لا يضطر الجيش إلى لعب آخر أوراقه والنزول بثقله إلى الشارع لحسم الموقف، في تجربة شبيهة بما حصل في التسعينات، وإن اختلف السياق العام.

ويخشى الجزائريون هذا السيناريو لا بسبب تاريخ العشرية السوداء بل لأنهم يعرفون مدى قدرة المؤسسة العسكرية في الجزائر وقوّتها، وماذا فعلت خلال تلك العشرية. لكن، يبقى هذا السيناريو بعيدا على المدى القصير حيث من المتوقع أن يلعب الجيش الجزائري دورا خلف الكواليس خلال الفترة الانتقالية ويدرس ترشيح عدد من المدنيين للرئاسة ولمناصب كبيرة أخرى بما يمكن أن يحمي أركان الدولة العميقة من ارتجاجات زلزال الغضب الشعبي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: