إسلامٌ ضد إسلام

يكرر دعاة الإسلام السياسي في خطابهم الترويجي لأحزابهم جملاً مثل أن الإسلام هو الحل” و“الإسلام دين الدولة”، منطلقين من فكرة كون “الإسلام صالحا لكل مكانٍ وزمان” وهي جُمل عامة تناسب جزيرةً يعيش فيها شخص واحد ليس لديه ما يفعله سوى محاولة عض أذنه، فهذه الجُمل ومثيلاتها كثيرة لم تخبرنا أي إسلام هو المقصود؟ هل هو إسلام الأغلبية، إسلام الغالب أم إسلام المواطنين جميعا؟ وهذا سؤال ظلت إجابته مستحيلة على امتداد أكثر من ألف وأربعمئة سنةّ من التعصّب والحروب المذهبية، وسياسات إقصاء الأقليات الدينية على امتداد تاريخ وجغرافيا انتشار الإسلام بأنواعه المختلفة.

قد يكون استخدام كلمة “أنواع” أمرا غريبا، فالحديث هنا عن ديانة يدين أتباعها بكتابٍ سماوي واحد مشترك، وهذه في واقع الأمر معلومة ناقصة، فالقول بوجود إسلام بأل التعريف دون لاحقة بمضاف إليه، هو خطأ لا علاقة له بعلم النحو والصرف بمقدار علاقته بالواقع التاريخي للإسلام نفسه، والذي جعل “إسلامات”، فالمشتركات بين دوائر الإسلام المختلفة يمكن جمعها جميعها في صفحة واحدة لا تجعل من الإسلام نفسه شيئا واحدا أبدا.

أهو إسلام المعتزلة، أم إسلام الأشاعرة؟ هل هو إسلام المتصوّفة أم إسلام الوهابية؟ أم هو الإسلام الحنبلي الذي يجعل المواطنين الإباضية مثلا في حال وجودهم داخل حدود هذه الدولة -حتى لو كان شخصا واحدا- خارجين عن الملّة، وبناء عليه يفقدون حقوق مواطنتهم كاملة بناء على هذا التحيّز الذي تعلنه الدولة بسبب الغلبة أو الأغلبية؟ إن معضلة الفصل بين الدين والدولة ليست كما يصوّرها الإسلاميون على أنها موضوع طارئ ودخيل على مجتمعات الدول ذات الأغلبية المسلمة (إحصائيا)، بل هي مسألة تقع اليوم في صلب موضوع وجود الدولة نفسها، ككيان محايد يرعى كل المواطنين دون تمييز، ويتعامل معهم دون فرق على أساس الضمير، فدون هذه الفكرة لا تكون الدولة اليوم دولة أصلا.

فالجزم بأن الدولة مسلمة لم يحدد أي إسلام هذا الذي ستفرض الدولة على مواطنيها عبر سلطتها القاهرة في مؤسسات التعليم والإعلام، المساجد ودور الإفتاء؟ يف ستكون حدود السلطة نفسها في التدخل في الحياة العامة للمواطنين، هل ستكون بناء على المذهب المعلن من قبل السلطة،
أم على أساس الإيمان الفردي للمواطنين أنفسهم؟

في مارس سنة 2014 نشبت أزمة هدّدت الأمن المجتمعي في الجزائر، بسبب بثت قناة تلفزيونية سعودية تتبع المذهب الحنبلي (قناة اقرأ) برنامجا دار في نقاش انتهى بتكفير جزائري سلفي للمذهب الإباضي، مما أدى إلى احتدام بين جموع أتباع المذهب في الجزائر، وبعد عام تقريبا، سنة 2015، نشبت أعمال عنف مذهبية-عرقيّة، نتج عنها مقتل 22 شخصا في غرداية، وهي ليست المرة الأولى التي تشهد غرداية أعمال عنف طائفية، حيث وقعت أعمال عنف عام 1985 أسفرت عن سقوط 5 قتلى، وفي عام 1989 ثم في عام 1990 وفي عام 2008 أسفرت أيضا عن مقتل 5 أشخاص، الأمر الذي يفتح الباب لطرح السؤال عن شكل الدولة هنا، ما دام أمر العداء بين المذاهب متأصلا في نصوص أصول الفقه المكوّنة لها أصلا، ولنا في مثال قيام السلفية في ليبيا بهدم ضريح عبدالسلام الأسمر وأضرحة أخرى للصوفية سنة 2012، بسبب تمكّنهم ببساطة من السيطرة على أجهزة الأمن في الدولة الليبية المفككة، ووجود فتوى تبيح لهم قتل المتصوّفة في الشوارع إذا كانت لهم الغلبة، كونهم -وأقتبس هنا من خطاب السلفية أنفسهم- “وثنيّين وعُبّاد قبور”، وهل العلمانية التي تعني حياد الدولة هي الحل الوحيد الممكن كي يمكن كبح جماح الصراع المذهبي الإسلامي الذي بدأ قبل أكثر من ألف عام ولم ينته إلى اليوم، وحماية كل المواطنين بغض النظر عن حجم الجماعة أو الذهب الذي ينتمون إليه.

إن محاولة تقليد بناء دولة حديثة على الطراز الغربي وسنّ دساتير لها دون الاعتراف بالمبدأ الأساسي لفكرة الدولة الحديثة نفسها، ألا وهو الحياد الإيجابي، ليس سوى محاولة للعيش في جزيرة الرجل أعلاه، والذي يحاول عضّ أذنه، وهي معضلة وقع فيها الليبيون عندما حاولوا كتابة دستور جديد، حيث ورد في المادة السابعة الخاصة بالمواطنة، حظر التمييز بين المواطنين على أساس العرق، اللون، اللغة، الجنس، الميلاد، الرأي السياسي، الإعاقة، الأصل أو الانتماء الجغرافي.

والغائب هنا ضمان عدم التمييز على أساس الانتماء الديني أو المذهبي، وهذا بالتأكيد ليس خطأ مطبعيّا، فعدم ذكر ضمان حق الانتماء الديني أو المذهبي هو باب مفتوح على مصراعيه لإعلان تسلط مذهبٍ بعينه على الدولة والدستور، بناء على خطأ تطبيق وإعلاء فكرة الأغلبية السياسية على حق انتماء الأفراد الديني أو المذهبي.

المتصوّفة في ليبيا، كما الإباضية في الجزائر، يعيشون اليوم تحت رعب الاستيقاظ صباحا ليجدوا أنفسهم أمام فتاوى على القناة الرسمية للدولة تستبيح دمائهم.

في تونس الدولة الأكثر علمنة في شمال أفريقيا، توجد في الدستور أيضا مادةٌ تقرّ بأن الإسلام هو دين الدولة، ونفس الشيء بالنسبة إلى الدستور المصري المعدّل في العام 2014 وهي مادة تنفي حق مواطني الدولتين من اليهود في الحالة التونسية، أو المسيحيين في الحالة المصريّة، من الحصول على حقوق المواطنة كاملة سواسية بالغالبية المسلمة في البلدين، كحق الانتخاب لمنصب الرئيس، وفي نفس الوقت تأمره بإرسال أبنائه لخدمة العلم والالتحاق بالجيش، الأمر الذي يجعل من الدولتين مجرّد أب بائس يجري وراء رضا الوعاظ، غير مكترث بصراخ أطفاله خوفا من الوعاظ أنفسهم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: