عبدالعزيز بوتفليقة: مسار متخم بالميكيافيلية والهوس بالسلطة

رفعت فرنسا السرية عن بعض ملفات الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة بما في ذلك تقارير من أجهزة المخابرات السرية التي وصفته عندما كان وزير الخارجية الجزائري بأنه “مكيافيلي متكبر وفاسد”، وفقا لمقال نشرته مجلة “لونوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية بتاريخ 26 فبراير 2019. وأثارت هذه الوثاق الجدل حول السبب وراء نشرها في مثل هذا التوقيت، خاصة وأن السلطات الفرنسية الرسمية لم تبد دعما مباشرا للاحتجاجات الشعبية.

رغم الغموض الذي يلف الخلفية الحقيقية وراء تسريب وثائق سرية عن مسار الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، في ذروة الاحتجاجات ضد ترشحه لولاية خامسة، إلا أنه سيدفع بالعديد من الحقائق التاريخية إلى الواجهة، بما فيها الاغتيالات السياسية التي طالت بعض المناضلين التاريخيين خلال سبعينات القرن الماضي.

دفعت الوثائق السرية المسربة من طرف الاستخبارات الفرنسية نهاية الشهر الماضي، لبعض وسائل الإعلام الفرنسية، بمسار بوتفليقة إلى استحضار تاريخ الرجل والوقوف عند بعض الأحداث، من ذلك كيف استشاط بوتفليقة غضبا لما سئل من طرف أحد الصحافيين العرب، في ذروة حملته الدعائية في انتخابات الرئاسة العام 1999، عن ضلوع نظام الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي كان يشكل أحد أضلاعه القوية، في اغتيالات سياسية طالت مناضلين تاريخيين معارضين لنظامه، وأوعز حينها حتى وهو لم ينتخب بعد لرئاسة البلاد، بغلق مكتب القناة إلى حد الآن.

وعرفت الجزائر بعد استقرار قيادة البلاد في 1962 عددا من الاغتيالات السياسية طالت عددا من المناضلين والقادة البارزين أثناء ثورة التحرير (1954 – 1962)، على غرار أحمد مدغري وكريم بلقاسم ومحمد خيضر والعقيد محمد شعباني الذين راحوا ضحية تصفية حسابات بين أجنحة السلطة التي استولى عليها ما يعرف بـ”مجموعة وجدة”.

وكان الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة أحد الأعضاء الفاعلين في مجموعة وجدة إلى جانب كل من الرئيس الأول للبلاد أحمد بن بلة والرئيس الذي تلاه هواري بومدين. وما شغل بوتفليقة لمنصب أول وزير للشباب والرياضة في أول حكومة جزائرية مستقلة، وهو لم يتجاوز سن الخامسة والعشرين، إلا دليل على المكانة التي كان يحظى بها في النظام السياسي الجديد.

انقلاب على بن بلة

تذكر روايات تاريخية، قدم بعضها القيادي في جيش التحرير الرائد لخضر بورقعة، بأن “مجموعة وجدة كانت تخطط للاستيلاء على السلطة بعد الاستقلال حيث أوفدت في السنوات الأخيرة للثورة عبدالعزيز بوتفليقة، بهوية مزورة إلى سجن لاسنتيه الفرنسي، لزيارة القادة الخمسة للثورة الذين اعتقلتهم فرنسا”.

وتضيف الروايات أن “مجموعة وجدة، كانت تدرك بأنها لا تملك شخصية كاريزمية في مستوى زخم الثورة وتحظى بقبول الشارع الجزائري آنذاك، ولذلك كانت تخطط لإقناع واحد من القياديين التاريخيين الخمسة لتتتمترس خلفه في المشهد الجديد”.

وتلفت إلى أن تحريض بوتفليقة لأول قائد لأركان الجيش العقيد هواري بومدين من أجل الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة لم يكن خافيا للعيان، ويكون قد تجاوز الطبيعة السرية التي كشفت عنها الوثائق السرية الفرنسية مؤخرا، خاصة وأنه كان أحد أعضاء ما عرف بـ”مجلس الثورة” الذي شكّله بومدين بعد الانقلاب على بن بلّة في جوان 1965، وهو ما استشف من تلميحات الرئيس الراحل أحمد بن بلة واعترافاته، ومن إشارات بوتفليقة خلال عشريته الأولى في السلطة، إلى أن تحققت مصالحة شاملة في المجتمع حتى بين المتخاصمين على السلطة.

وعمد بوتفليقة إلى جمع كل رؤساء البلاد والقادة على منصة واحدة في عدة مناسبات كتلميح لتجاوز خلافات الماضي، لكن الرئيس السابق اليامين زروال كان يصنع الاستثناء بعدم تلبية دعوة بوتفليقة ربما لعدم اقتناع أو شكوك في تلك المبادرات.

وتقول الروايات إن مساعي بوتفليقة في إقناع القيادي محمد بوضياف قد باءت بالفشل خلال المحاولة الأولى لأنّ الرجل كان يملك تصورا يتنافى مع مبدأ الاستيلاء على السلطة باسم الشرعية الثورية.

لكن بوتفليقة نجح في محاولته الثانية في إقناع أحمد بن بلة بأن يكون رئيسا للبلاد بعد الاستقلال بدعم من جيش الحدود في إرساء قواعد الجمهورية الجديدة واحتواء المعارضين.

ثقل بوتفليقة

Thumbnail

بغض النظر عن الطابع الاستراتيجي للوثائق الفرنسية المسرّبة مؤخرا لوسائل إعلام فرنسية، كونها تدخل في صلب عمل أيّ جهاز أمني واستخباراتي، فإن دور وثقل الرئيس الحالي بوتفليقة، في نظام الرئيس الراحل هواري بومدين (1965 – 1978)، وقبلها في نظام بن بلة (1962 – 1965)، يدفعه لأن يكون صاحب قرار أو على اطّلاع عليها، بما فيها الاغتيال السياسي الذي طال القيادي التاريخي كريم بلقاسم العام 1970 في ألمانيا.

ولأن بوتفليقة كان شديد التقرب من الرئيس بومدين، لدرجة الانزعاج من زوجته أنيسة، التي تأخذ مكانا بروتوكوليا في بعض الأحيان يزيحه عن الأضواء ويدفعه إلى الصفوف الخلفية، فإن ذلك يبقيه بمثابة العلبة السوداء لتلك المرحلة، ولو أن اسمه لم يرد البتة في التفاصيل التي طفت على السطح خلال السنوات الأخيرة حول ظروف وملابسات اغتيال العقيد محمد شعباني العام 1964، بعد خلافات عميقة مع الرئيس بن بلة وقائد أركان الجيش هواري بومدين.

وأجمعت العديد من الشخصيات السياسية في البلاد، خلال استقدامه العام 1999 من طرف قيادة المؤسسة العسكرية ليكون مرشح السلطة في انتخابات الرئاسة آنذاك، على أن عودة الرجل ستكون مغامرة غير محمود العواقب، فقد ورد على لسان رئيس مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) بشير بومعزة قولته المشهورة “استقدمتوه وستعلقون معه”.

وروى وزير سابق ، طلب عدم الكشف عن اسمه، عن تصرف بوتفليقة النرجسي، والذي كان يرى نفسه فوق الجميع، ولا أحد ينازعه السلطة، ففي أحد اجتماعات قصر المرادية (الرئاسة) الذي دعي إليه كبار المسؤولين في الدولة، ذكر أحد الحاضرين أن “الرئيس بومعزة لم يحضر بعد”، كونه رئيس البرلمان والرجل الثاني في الدولة، فغضب بوتفليقة عليه ورد عليه “هل هناك رئيس غيري في الجزائر”.

تصف تقارير دائرة التوثيق الوطنية الخارجية الفرنسية بوتفليقة بأنه مناور كبير ومحب للسلطة، بل وتجاوزت ذلك لتصفه بـ”رجل كافة المؤامرات” واعتبرته المحرض الحقيقي على انقلاب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة في يونيو 1965

ويذكر العديد من الوزراء في حكومات متعاقبة خلال العشريتين الأخيرتين بأنهم لم يتشرفوا حتى بمصافحة بوتفليقة، وكان يعاملهم خلال سنوات تمتعه بقواه الصحية كموظفين أو رؤساء مكاتب فقط.

وتوافقت الأوصاف التي كشفت عنها الوثائق السرية الفرنسية كـ”النرجسية” و”الميكيافيلية” و”عديم الأصدقاء” و”الفساد” مع الوقائع التي ثبتت خلال العشريتين الأخيرتين للرجل، فقد صرح لصحفية فرنسية، لما قرر منافسوه الانسحاب من خوض سباق الرئاسيات العام 1999 احتجاجا على انحياز المؤسسات الرسمية والجيش لصالحه، بأنه “على الشعب الجزائري أن يختار، وإذا أراد أن يبقى في رداءته يفعل عكس ذلك”.

وظل علي كافي، القيادي في جيش التحرير وعضو مجلس الدولة (1992 – 1994)، رافضا لأيّ محاولة من طرف القيادة لاستقدام بوتفليقة، في ذروة العشرية الحمراء، لأسباب كشف عنها في تسجيل صوتي متداول كثيرا على شبكات التواصل الاجتماعي.

ويذكر علي كافي “لقد رفضت رفضا قطعيا مساعي قيادة الجيش لاستقدام بوتفليقة، لقيادة البلاد خلال فترة التسعينات، وأجزمت لهم لن يكون فيها ما دمت أنا فيها”، وبرر ذلك بـ”فساده وعنجهيته وشخصيتيه المتغطرسة”.

وكان مجلس الدولة (الهيئة العليا التي قادت البلاد بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد وتوقيف المسار الانتخابي لعام 1991)، قد حاول إقناع بوتفليقة بشغل منصب قيادة الدولة العام 1994، لكن الرجل رفض المسعى حينها لكون المنصب لا يكفل له الصلاحيات الكاملة، ولإدراكه بأن البعض في الهيئة لا يريده، وشدد على ألا يقبل الفكرة إلا إذا كان رئيسا.

وشكل بوتفليقة نموذجا لتناقضات النظام الجزائري خلال حكم الراحل هواري بومدين، ففيما كان الأخير عرّاب النظام الاشتراكي في المنطقة، كان بوتفليقة يمثّل الصوت الليبرالي المنبهر بأضواء العالم الرأسمالي، حيث كان دائم التردد على باريس، واستطاع حياكة شبكة علاقات كبيرة وقوية، مما سلط عليه العيون الاستخباراتية.

وتنقل إحدى الروايات عن مدير البروتوكول في الرئاسة عبدالمجيد علاهم، بأن “الرئيس بومدين كان منزعجا من علاقاته المشبوهة في فرنسا، واستدعاه في إحدى المرات إلى مكتبه، فوبّخه بالقول “أنت وزير خارجية الجزائر أو وزير خارجية فرنسا؟”، فقد كان الرجل لا يغادر الجزائر إلى أيّ وجهة أو لا يعود إليها إلا بمروره على باريس، وهو ما استرعى اهتمام بومدين وأوعز لجهاز الاستخبارات لإعداد تقارير بشأنه.

ونقل عن الأمين العام الراحل لحزب جبهة التحرير الوطني عبدالحميد مهري بأن “بوتفليقة جاء لينتقم”، في إشارة للأجندة التي كان يحملها في 1999، لما استقدم من طرف قيادة العسكر ليكون رئيسا للبلاد، بعد الخروج المهين من السلطة في 1979، بعدما كان يرى نفسه الوريث الشرعي لبومدين.

وكانت أولى خطوات بوتفليقة، بعد تنصيبه رئيسا للبلاد في 1999، الحلّ الرمزي لبعض الهيئات والمؤسسات وعلى رأسها مجلس المحاسبة الذي اتهمه في مطلع ثمانينات القرن الماضي بتحويل أموال هامة من موازنة وزارة الخارجية لحسابه الخاص.

ولا زال الجميع في الجزائر يتذكر الدموع التي ذرفها القيادي في مجموعة الـ22 مصطفى بن عودة خلال توشيح بوتفليقة بالزي الرئاسي في حفل التنصيب، ويبقى الخلاف في تفسيرها بين الخوف على شخصه أو على البلاد، فالرجل هو الذي وقّع قرار إبعاد بوتفليقة، من صفوف الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) بتهم الفساد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: