فرنسا تتهرب من غضب “الفقراء” بمعاقبة الأغنياء

يرى محللون في موجة الاحتجاجات الشعبية التي اكتسحت فرنسا بسبب الترفيع في ضرائب الطاقة انتكاسة ولو طفيفة للأنظمة الليبرالية في أوروبا ستكون لها تداعيات على كافة دول القارة مع قادم الأيام. وكان احتجاج الفرنسيين حسب خبراء اجتماعيين، نتيجة طبيعية لتآكل الطبقة الوسطى مقابل تنامي ثراء الأثرياء.

تشعر السلطات الفرنسية بقلق بالغ من تجدد أعمال العنف السبت، رغم تراجعها عن ضرائب الطاقة التي رفضتها الطبقة المتوسطة الفرنسية واعتبرتها توحشا ليبراليا على حساب الدور الاجتماعي للدولة.

ولم يطفئ التراجع الحكومي عن الضرائب، غضب الفرنسيين الذين باتوا يشعرون بأن فرنسا بدأت تتخلى تدريجيا عن الدور الاجتماعي للدولة، لصالح الأبجديات الليبرالية “المتوحشة” التي تثقل كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة بالضرائب مقابل تخفيف “الحمل” عن الأثرياء، وهو ما يقره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتخفيض في الضريبة على الثروة.

ورغم أن منطلقات الحكومة الفرنسية في التخفيف على ضريبة الثروة تحمل أبعادا اقتصادية، تسعى باريس من خلالها إلى كبح مغادرة رجال الأعمال الفرنسيين للبلاد بسبب ارتفاع الضرائب المسلطة عليهم، إلا أن ذلك يبدو غير مقنع لأغلبية فرنسية ترى أنها مستهدفة بدرجة أولى من وراء هذه القرارات.

وتعهد الرئيس الفرنسي، تحت وطأة الاحتجاجات وبعد خروجها عن السيطرة، باستعداده لمراجعة الضريبة على الثروة، أملا في تفادي موجة جديدة من الاحتجاجات قد تطيح به باعتباره “رئيسا للأثرياء فقط” كما يصفه معارضوه.

ويتوقع متابعون للشأن الفرنسي أن يعلن ماكرون في خطابة المرتقب الأسبوع المقبل، التعديل في ضريبة الثروة التي يعتبرها مناهضوه محاباة للأغنياء، أملا في امتصاص غضب المحتجين.

بنجامين جريفو: يتعين تغيير كل سياسات الضرائب إذا تبين أنها لا تجدي نفعا
بنجامين جريفو: يتعين تغيير كل سياسات الضرائب إذا تبين أنها لا تجدي نفعا

ويقول هؤلاء إن الرئيس الفرنسي لا يملك خيارات كثيرة في خطابه المرتقب حيث سيتجنب نبرة التصعيد التي رافقته خلال الأسابيع الفارطة، بإعلان إجراءات عاجلة لفائدة محدودي الدخل مثل الترفيع في المساعدات الاجتماعية.

ويشير مراقبون إلى أن بقية دول الاتحاد الأوروبي ليست بمعزل عن موجة الاحتجاجات التي انطلقت في فرنسا، مع اعتزام عدد من الحكومات الترفيع في أسعار تذاكر النقل المرتفعة أصلا للحد من العجز المالي في الميزان الطاقي.

والتقطت لكسمبورغ، أصغر بلدان الاتحاد الأوروبي، الإشارات الفرنسية بسرعة، حيث أعلنت الخميس عن توجهها نحو مجانية النقل العمومي لمواطنيها بداية من العام المقبل، ما يحرج بقية دول الاتحاد التي قد تذهب عنوة نحو هذا الخيار بالرغم من تأثيره على موازناتها المالية.

وفي محاولة يائسة لنزع فتيل أسوأ أزمة تمر بها رئاسة ماكرون، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب الأربعاء أن حكومته تخلت عن زيادة الضرائب على الوقود التي كانت مقررة في عام 2019، بعد يوم من إعلانه تعليق العمل بهذه الزيادة لستة أشهر. وبالتقليص من كاهل الجباية على الطبقات الوسطى والعمال، تجد الحكومة الفرنسية نفسها مضطرة إلى مواجهة الأغنياء، وهو ما لا يحفز مناخ الاستثمار في البلاد، حسب اقتصاديين.

وتبذل حكومة ماكرون جهودا كبيرة لتهدئة غضب الشارع عبر “حبة” زيادة الضريبة على ثروات الأغنياء. وقال بنجامين جريفو الناطق باسم الحكومة الفرنسية والحليف المقرب من ماكرون إنه “تنبغي إعادة تقييم كل السياسات المتعلقة بفرض الضرائب من وقت إلى آخر ويتعين تغييرها إذا تبين أنها لا تجدي نفعا”.

ويرى متابعون أن “حقنة” الترفيع في الضرائب على الثروة، ستساهم في تأجيج الاحتجاجات من الطرف النقيض، إذ أن الأثرياء بدورهم يتذمرون من ارتفاع الضرائب ويشعرون بأنهم مستهدفون وبأنهم الحلقة الأضعف التي ترمي عليها الحكومات فشلها في معالجة المشاكل الاجتماعية.

ويشكل خطر وقوع المزيد من العنف كابوسا أمنيا للسلطات التي تفرق بين محتجي “السترات الصفراء” السلميين والجماعات العنيفة ومثيري الفوضى والذين يأتون من أحياء فقيرة بهدف النهب وتقول إنهم تسللوا إلى صفوف الحركة. وتفجرت حركة “السترات الصفراء”، المسماة بذلك نسبة إلى السترات التي يطالَب السائقون في فرنسا بالاحتفاظ بها في سياراتهم، في نوفمبر بسبب الأعباء التي تشكلها ضرائب الوقود على كاهل الأسر، وسرعان ما اتسعت الاحتجاجات لتصبح تمردا واسعا وعنيفا أحيانا ضد ماكرون دون قائد رسمي يقودها.

وهناك مشاكل أخرى تلوح في الأفق أمام ماكرون من طلاب غاضبين ومزارعين يشتكون منذ زمن من أن تجار التجزئة يخفضون هوامش ربحهم ومن تأخر زيادة مزمعة للحد الأدنى لأسعار الغذاء، كما أن سائقي الشاحنات يهددون بالإضراب اعتبارا من الأحد.

ويشير مراقبون إلى أن تراجع الحكومة الفرنسية عن ضرائب الوقود سيفتح شهية الفرنسيين للمزيد من الضغط في اتجاه مراجعة السياسات الاجتماعية الفرنسية، الأعلى كلفة في أوروبا، في اتجاه دعمها بإجراءات جديدة عوض البحث عن الحدّ منها. ويعتبر حجم الإنفاق الاجتماعي في فرنسا الأعلى كلفة بين دول أوروبا، وهو ما يجعل الحكومات تتعرض لانتكاسات كلما حاولت التقليص منه، إذ يعتبره الفرنسيون إحدى ثمار الثروات الفرنسية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: