إحياء الموتى.. مغامرة العلم في تخطي حدود المستحيل

تجارب إعادة الحياة للموتى ليست خبرا من باب الخيال العلمي، ولكنها حقيقة يعمل عليها العلماء وقاموا بالاحتفاظ ببعض الموتى بتقنيات التجميد العميق على أمل أن يبعثوا فيهم الحياة مرة أخرى، خاصة وأنهم نجحوا في إحياء بعض الحشرات والديدان.

خلف ألواح من الزجاج الواقي من الرصاص داخل بناية نائية في صحراء أريزونا الأميركية، يجري الاحتفاظ بجثامين 153 شخصا على أمل واحد، ألا وهو إعادتهم إلى الحياة من جديد.

وتصطف الجثامين داخل هذا المبنى في وضعية مقلوبة على رؤوسها، بل وفي بعض الحالات لا يتبقى منها سوى الرؤوس فقط، حيث يتم تبريدها إلى درجة حرارة 196 تحت الصفر داخل أنابيب ضخمة من الصلب تحتوي على النتروجين السائل.

ومن بين الرؤوس التي يتم الاحتفاظ بها داخل مؤسسة ألكور لتمديد الحياة في مدينة سكوتسديل، رأس ماثرين ناوفاراتبونغ، وهي طفلة في الثانية من عمرها كانت مصابة بسرطان المخ وأعلنت وفاتها في يناير عام 2015.

وقرر والداها وهما متخصصان في مجال الهندسة الطبية، تجميد مخها أملا في أن تستطيع علوم المستقبل إعادتها للحياة مرة أخرى وزراعة جسم جديد لها.

ويقر ماكس مور رئيس مؤسسة ألكور ومديرها التنفيذي بأن تقنيات التجميد العميق، ويقصد بها الاحتفاظ بالجسم في درجات حرارة بالغة الانخفاض من أجل إعادته للحياة في المستقبل، والتي تستخدم مع الحالات المرضية الميؤوس من شفائها في الوقت الراهن، إنما هي تقنية في طور التجارب ويصفها بأنها “امتداد لعلوم طب الرعاية الحرجة”.

وأشار أرون دريك المستشار الطبي بمؤسسة ألكور مؤخرا في مقابلة صحافية مع مجلة “ماذر بورد” ومقرها في مدينة مونتريال الكندية، إلى أن التجميد العميق يمكن أن يصبح “تجربة علمية دائمة التطور”.

لكنهما أعربا عن “أملهما وتوقعاتهما” بأن تستطيع الطفلة ماثرين وزملاؤها “المرضى” استئناف حياتهم يوما ما، وأشارا إلى وجود “حقائق” تبرر “تقنية التجميد العميق بعد الوفاة”، من بينها أن “الحياة يمكن أن تتوقف ثم تستأنف مرة أخرى إذا ما تم الحفاظ على التركيبة الرئيسية للجسم”.

وفي دجنبر عام 2017، أنجبت امرأة أميركية تبلغ من العمر 26 عاما مولودة في صحة جيدة بعد أن ظلت هذه المولودة 24 عاما على هيئة جنين مجمد.

وتعتبر ألكور واحدة بين أكبر مؤسستين غير ربحيتين تعملان في مجال التجميد العميق في الولايات المتحدة، في حين أن الأخرى هي معهد علوم التجميد العميق ومقره في مدينة ميتشغن، كما توجد مؤسسة ثالثة تحمل اسم “كريو روس” ومقرها في روسيا وهي تقدم نفس الخدمة ولكن نظير مقابل.

وبشكل إجمالي، هناك قرابة 3500 شخص في مختلف أنحاء العالم دفعوا مقدما نظير تجميدهم شخصيا أو تجميد حيواناتهم الأليفة. وتقول مارغي كليما وهي مسؤولة إدارية بمؤسسة ألكور إن هناك عددا متزايدا من الشباب وأفراد الأسر يطلبون خدمات التجميد العميق، موضحة أن “من بين أعضائنا عائلات عديدة تضم أربعة أو خمسة أطفال”.

ويطلب معهد علوم التجميد العميق في ميتشغن والذي يتقاضى رسوما أقل من مؤسسة ألكور، أعضاء أصغر سنا، ويبلغ متوسط أعمار أعضائه حوالي 47 عاما.

وحتى الآن، يقتصر الاهتمام بتقنية التجميد العميق إلى حد كبير على الرجال، حيث أن اثنين من كل ثلاثة أعضاء بمعهد التجميد العميق هم من الرجال، ومعظمهم من البيض الأثرياء.

وتتراوح تكلفة التجميد العميق ما بين 30 ألفا و200 ألف دولار أميركي، حسب الجهة التي تقدم الخدمة ونوعية الخدمة المطلوبة سواء إن كان تجميد الجسم بالكامل أو النظام العصبي بالجسم.

ومن بين المهتمين بالتجميد العميق، بيتر ثيل الذي شارك في تأسيس خدمة “باي بال” للتحويلات المالية على الإنترنت وراي كورتزفيل الباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، كما أن هناك 350 عضوا آخرين من بينهم أسطورة رياضة البيسبول الأميركي تيد ويليامز، تم تجميدهم بالفعل.

أما في ما يتعلق بطريقة عمل تقنية التجميد العميق، فإنه بمجرد إعلان وفاة الشخص يتم وضعه بشكل فوري في حوض يحتوي على الماء المثلج لمنع تحلل الأعضاء، ولا سيما المخ، في حين يتم تنشيط الدورة الدموية والتنفس بواسطة جهاز لإنعاش القلب والرئتين بجانب أدوية حافظة يتم حقنها في جسم المريض عبر الوريد.

وبعد “استقرار الحالة”، يتم نقل الجسم بأقصى سرعة ممكنة إلى مؤسسة التجميد العميق، حيث تتم تصفية الدم وغيره من السوائل الجسمانية واستبدالها بمواد كيماوية يطلق عليها “المواد الحافظة للتجميد” وهي مواد مانعة للتجمد ذات مواصفات طبية.

وتمنع هذه المواد تحول المياه الموجودة داخل أنسجة الجسم إلى بلورات من الثلج، وهو ما قد يؤدي إلى تلف الخلايا عندما يتم تبريد الجسم إلى درجات حرارة منخفضة للغاية.

خلود ما قبل عصر التجميد.. تحنيط الفراعنة

نجح الفراعنة في تحنيط موتاهم دون استخدام مواد كيميائية قبل أن تكون هناك ثلاجات أو غازات تجميد كالنيتروجين ولا تجهيزات تعقيم وقياس درجة الحرارة، أو تقنيات طبية كالتي تتجهز بها المختبرات العلمية، ومازال التحنيط الذي اشتهر به قدماء المصريين من العلوم التي لم تكشف أسرارها خاصة المواد التي يعتمدونها في ذلك.

وكان الفراعنة يقومون بتحنيط موتاهم لأنهم يعتقدون أنها ستسمح لهم بالاستمرار في الحياة في العالم الآخر، فحبهم للحياة جعلهم يفكرون بالاستمرار في التمتع بها حتى بعد موتهم.

وقد تطورت عملية التحنيط عند الفراعنة بداية من دفن الموتى في رمال الصحراء الجافة إلى فن التحنيط المتطور.

وتتم عملية التحنيط عند الفراعنة بتنظيف الجسم بالماء والنطرون، ثم تتم إزالة جميع أعضاء الجسم سريعة التحلل كالمخ والمعدة والأمعاء والكبد من الشخص الذي سيتم تحنيطه، باستثناء القلب الذي سيبقى مع الجسم نظرا لحاجة الإنسان له في العالم الآخر طبقا لمعتقدات الفراعنة. وبعد إزالة الأعضاء من جسم الفرعون يتم غسلها ثم وضعها في وعاء من النطرون لتجف، وبعد تجفيفها يتم عمل مركب كيميائي مكون من كربونات الصوديوم وبيكربونات الصوديوم والملح ووضع ذلك الخليط في أوان، ويتم وضع كل عضو من أعضاء الجسم في تلك الأواني ويتم دفن تلك الأواني بجوار جسم الفرعون المتوفى.

ويتم لف الجسم في لفافة من الكتان بعد تضميده والذي يستغرق عادة 15 يوما واستخدام شمع العسل لتغطية الأذنين والعينين والأنف والفم، وعندما يحين وقت الدفن يتم حشو جثة الفرعون بنشارة الخشب وأوراق الشجر والكتان ويتم فرك الزيت والتوابل والعطور على جسم المحنط للحفاظ على نضارة الجسم ورائحته، وأخيرا وضع الجثة في التابوت أو المومياء وكان من الشائع وضع قناع على المومياء. وبعدما تنتهى عملية التحنيط وتصبح المومياء جاهزة للدفن، تبدأ الطقوس والشعائر ويبدأ الكاهن بطقس فتحة فم المتوفى ليستطيع تناول طعامه ويتكلم في العالم الآخر.

ويعتقد المصريون القدامى أن الإنسان لا يمكن أن يبعث في الآخرة إلا بعد أن تعود الروح إلى الجسد، لذلك حنطوا الميت لحماية جثته من التحلل وكي تتمكن الروح من العثور على الجسد.

وقال العلماء إن المواد التي وجدت في أقمشة الدفن في أقدم المقابر المصرية القديمة المعروفة، أظهرت أن حفظ الجثث بالتحنيط بدأ عام 4300 قبل الميلاد تقريبا. وتبين أن الكتان المستخدم في لف جثث الموتى وضعت عليه مواد كيميائية لتوفير عازل للحماية ومقاومة البكتيريا.

ويظهر الفراعنة من خلال ما توصلوا إليه أنهم لم يكونوا منشغلين بالموت بقدر ما كانوا منشغلين بالإعداد لما بعد الموت ودخولهم العالم الآخر.

ويعتقد المصريون القدامى أن المومياء هي مكان الروح والقرين والفطرة، وكان الهدف في الحياة الأخرى هو الحياة، ولذلك فقد طور الفراعنة طريقة التحنيط لكي يتم الحفاظ على الجسد سليما وعلى الملامح لكي تتعرف عليه الروح، لأن تدمير الجسد قد يعني فناء الروح.

وقال ستيفن باكلي عالم الآثار بجامعة يورك البريطانية والذي قاد فريق الباحثين، “اعتقد قدماء المصريين أن بقاء الجسد بعد الموت ضروري حتى يعيش الإنسان مرة ثانية في الآخرة ويصبح مخلدا، ودون جسد محفوظ لم يكن هذا ممكنا”.

ويجري تحويل الأجنة أو البويضات البشرية إلى حالة زجاجية متجمدة بحيث يمكن تخزينها من أجل استخدامها في وقت لاحق.

وبمجرد حقن الأوعية الدموية الرئيسية في الجسم بالمواد الحافظة اللازمة لعملية التجميد، يتم تبريد الجسم ببطء لتجنب حدوث أي كسور، في درجة حرارة تبلغ سالب 196 مئوية خلال فترة تصل إلى أسبوعين.

ويوضع الجسم بعد ذلك داخل وعاء من الألمنيوم في وضعية مقلوبة بحيث تكون الرأس لأسفل حتى يظل المخ باردا لأطول فترة ممكنة في حالة حدوث تسريب لسائل التبريد، ثم يوضع هذا الوعاء داخل أنبوب عملاق يحتوي على النتروجين السائل.

وعلى خلاف معهد علوم التجميد العميق، تعرض مؤسسة ألكور إمكانية تجميد النظام العصبي للجسم أيضا بحيث يتم تجميد المخ فقط داخل الرأس والجمجمة والاحتفاظ به حتى يحين اليوم الموعود.

وترى مؤسسة ألكور أنه “من المتوقع″ أن تتيح علوم الطب في المستقبل إمكانية زراعة جسم جديد للمخ الذي تم تجميده، ويستطيع كل أنبوب الاحتفاظ باربعة أجسام وخمسة أمخاخ.

ولا تزال هناك بعض المشكلات الرئيسية التي تتعلق بتقنية التجميد العميق، من بينها على سبيل المثال، كيف يمكن سحب المواد الحافظة السامة من خلايا الجسم والمخ؟

وهل يمكن إصلاح الأضرار التي سوف تلحق بالجسم؟ وكيف يمكن إعادة تدفئة جسم المريض بشكل آمن؟، حيث أنه إذا ما حدثت هذه العملية بشكل سريع، فإن الثلج سوف يتكون داخل الجسم عند درجة حرارة صفر مئويا، أما إذا تمت عملية التدفئة ببطء، فمن الممكن أن تتعرض الأنسجة للتحلل.

ورغم أن الباحثين استطاعوا بالفعل تجميد بعض الكائنات الحية البسيطة مثل الديدان الخيطية والعلقات ثم إعادتها مرة أخرى للحياة بنجاح، إلا أن تركيبتها البسيطة تختلف بشكل كبير عن التركيب المعقد للمخ البشري.

ويعتقد خبراء التجميد العميق أن المستقبل سوف يحمل في طياته تقنيات جديدة لتدفئة المرضى بعد تجميدهم بجانب التطور الذي تشهده علوم النانو والتقدم في مجال الطباعة المجسمة للخلايا والأعضاء، حيث ربما يكون من الممكن في المستقبل على سبيل المثال استخدام روبوتات متناهية الصغر في إصلاح الخلايا التالفة بفعل التجميد العميق أو بفعل الشيخوخة أو بعض الأمراض مثل السرطان.

ولعل هذا هو الأمل الذي كان يراود كيم سوزي، وهي طالبة أميركية كانت تبلغ من العمر 23 عاما، وقبل أن تفارق الحياة بسبب سرطان المخ في يناير عام 2013، أطلقت هي وصديقها حملة لجمع التبرعات على الإنترنت من خلال موقع ريديت الإلكتروني بغرض الاحتفاظ بمخها عبر تقنية التجميد العميق.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عنها قولها آنذاك إن “وجود احتمال تتراوح نسبته ما بين واحد واثنين بالمئة” لعودتها للحياة من جديد، هو فرصة جديرة بأن يحاول الفرد انتهازها.

ويراود المرضى الذين يخضعون لتجميد أمخاخهم حلم استعادة شخصياتهم وذكرياتهم المسجلة في ثنايا عقولهم بعد إعادتهم مرة أخرى للحياة، سواء عن طريق الاتصال بأجسام جديدة أو عبر تحميل هذه البيانات من جهاز كمبيوتر.

ويبحث أطباء الأعصاب حاليا عن العناصر المكونة للشخصية البشرية داخل المخ. ويعكف الباحثون بمعهد ماكس بلانك للعلوم العصبية والحيوية بالقرب من مدينة ميونيخ الألمانية على وضع خارطة ثلاثية الأبعاد للخلايا العصبية داخل المخ.

وقاموا بالفعل بإعداد طريقة تقربهم من هذا الهدف الذي مازال بعيد المنال، حيث أن المخ البشري يحتوي على قرابة عشرة مليارات خلية عصبية وزهاء كوادريليون وصلة عصبية بين الخلايا المخية.

ويبدو أن والدة الفتاة التايلاندية ماثرين التي تم تجميد مخها في مؤسسة ألكور في أريزونا قد وجدت بعض السلوان، حيث أنها صرحت لمجلة “ماذر بورد” قائلة “على الأقل، لقد قمنا بتكريس حياتها وجسمها من أجل تقدم وتطور العلم”.

وتأمل الأم المكلومة أن تلتقي مع ابنتها يوما ما، حيث أنها تعتزم أن تخضع هي وزوجها لعملية التجميد العميق بعد الوفاة في مؤسسة ألكور.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: