حرمة الخطاب الجنساني واستلاب جسد الأنثى
النخب العربية والحركات النسوية لم تسع بشكل جذري إلى تجاوز الخطاب الأخلاقي للجنسانية نحو خطاب عقلاني يمكننا من خلاله أن نؤسس لمجتمع جديد يسود فيه الحب والاحترام بين الجنسين.
رغم ما حققته المرأة العربية من مكاسب وحقوق إلا أنّها ما تزال تخضع إلى استعمار غير مباشر من طرف السلطة الذكورية بسبب جنسها، إثر ترسيخ فكرة تمايز الرجل عنها وقد قنّنت السلطة البطريركية إلى حدّ ما حرية النساء “التعليم، العمل، المشاركة في الشأن العام”، إلا أنّها ألغت مشاركتها في المسؤولية ليتمتع بها الرجل لوحده، فهل حريّة النساء اليوم دون مسؤولية تتقاسمها مع الرجل تعتبر حرية تامة أو شكلا مخففا من العبودية تتحمله بسبب جنسها الأنثوي؟
تعمد المرأة العربية إلى اليوم إلى سلاحها القديم “الإغواء الجنسي” حتى وهي تطالب بحقوقها ودحر النظرة التقليدية تجاهها ولكنّها مازالت تستبطن في داخلها أنّها لعبة جنسية لا تستطيع مواجهة الآخر ومحاربته إلاّ انطلاقاً من سحر جسدها، فمازال -إلى اليوم- الجسد الأنثوي يخضع إلى النظرة التبضيعية التشييئية والأخرى التقديسية الجنسوية والتي تتعامل مع الجسد ككيان منفصل عن صاحبته ليخدم مصالح أخرى، فالمرأة مشاركة في تدهور مكانتها، وإلى اليوم لم تتحرر من جسدها، بل تراه سجنا يعوق تحررها.
نتيجة لما سبق، مازال الحديث عن الجنسانية محرّما على الأفراد في المجتمعات العربية ، ونقصد هنا “الجنسانية” كمدخل أساسي للمساواة بين الذكور والإناث على حدّ السواء، إلى جانب تحقيق مبدأ سيادة الفرد على جسده والتحرر من السيطرة البطريركية فيما يتصل بهذا الموضوع، إذ رسمت السلطة أو الهيمنة الذكورية صورة معدّة سلفا عن الجنسانية في المجتمعات العربية، ” ذكر فاعل وأنثى خاضعة” واستعملت في ترسيخ هذه الصورة و”تأبيدها” العامل الثقافي والديني.
يشير النص القرآني إلى هذا بوضوح بالغ “نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ”، لتصبح المرأة أرضا خاضعة إلى سلطة الرجل يحرثها كيفما ومتى شاء، في حين أنّ الصورة الجنسية مخالفة لما يروّج عن قدرة وسيطرة الرجل: إذ ينتصب العضو الذكري انتصابا كاملا في إشارة حقيقية “للحياة” في بداية الحرث أو العملية الجنسية ثم يرتخي نهائيا بعدها وهو ما يرمز إلى “الموت”، فيما يحيا تدريجيا “الفرج” العضو الأنثوي منذ بداية العملية الجنسية ويصل إلى ما بعدها إلى ذروة الحياة وهو ما يثمّن القدرة الجنسية للمرأة التي ظلمتها السلطة الذكورية وجعلتها مجرّد وعاء لإخماد الشهوة وحصرها في وظيفة الأمومة.
لنطرح السؤال هنا انطلاقا من المشهد السابق: أليست العملية الجنسية حيّزا زمنيا وفكريا لإعادة السؤال؟ لماذا يتمتع الرجل بكلّ هذه السلطة التي يستعملها ضدّ النساء ككائن خارق ومتعال عنها فيما ينتصب ويرتخي بعد العملية الجنسية مثل المرأة التي تتمتع بالقوّة والضعف في شخصيتها؟ نحن هنا لا نتحدث عن المساواة في شكلها المعروف بل نتحدّث عن ضرورة الخروج من طوطم الرجل الخارق الذي يعيش وينشط بكثرة في مخيلة المرأة وفي هواماتها الجنسية.
تتخذّ السلطة الذكورية من الجنسانية خطابا أخلاقيا إذ يصبح الجنس مُحدداً رئيسياً في الأخلاق العامة وليس في حياة الفرد الخاصة ويستعمل هذا الخطاب خاصة في قمع النساء وإخضاعهن بسلطة الأخلاق، بوصفها الرقيب الأوّل في مجتمعاتنا.
لم تسع النخب العربية والحركات النسوية بشكل جذري إلى تجاوز الخطاب الأخلاقي للجنسانية نحو خطاب عقلاني يمكننا من خلاله أن نؤسس لمجتمع جديد يسود فيه الحبّ والاحترام بين الجنسين فلا غالب أو مغلوب ولا معركة بينهما كما نعايش هذا في الخطاب النسوي الحديث، إذ تحوّلت الجنسانية في مجتمعاتنا اليوم إلى سلاح مشترك بين السلطة الذكورية والنساء يستخدمه كل منهما لمحاربة الآخر وبهذا أصبح الجسد “الشخصية الاعتبارية” مجرّداً من كيانه الماديّ ليصبح حقلا رمزيا تخاض على مساحاته الحروب بين الذكور والإناث وبين الثقافة الرسمية أو الأصيلة والأخرى الوافدة.
نستحضر هنا في حديثنا عن الصراع بين النظام الذكوري والنساء، ظاهرة “فيمن-femen” في المجتمعات العربية لا سيّما تونس ومصر، نساء عاريات ينتمين إلى ثقافة تعتبر أنّ تحجيب الجسد ذو مضمون أخلاقي وأنّ الحجاب حصن المرأة من الثقافة الدخيلة، “ثقافة الحداثة “التي تهدّم المجتمع عن طريق المرأة الحلقة الأضعف والأقلّ عقلا والأكثر قبولا للغواية على عكس صورة الرجل في المخيال الجمعي.
تواجه ناشطات هذه الثقافة بتطرّف أقصى وهو خلع ما يحيط بالجسد وإبرازه عاريا، إذ انهارت مقولات الجسد الأنثوي وكلّ مضامينه القيمية، ليتحوّل إلى أداة احتجاج، يلغي حدوده مع الآخر ويعلن عن نفسه. فهذا الجسد العاري كشف في لحظة عريه عن حقيقة وجود الأنثى في المجتمع التي تحكمها اتهامات واتهامات أخرى مضادة.
خرج خطاب بعض النسويات العربيات فيما يخصّ حقوق المرأة عن مساره الطبيعي اليوم، فما نعايشه من ردّات فعل وخطاب تحريضي على الذكور واعتبارهم أعداء لا يمكن سوى أن يثمّن مكانة السلطة البطريركية وتثبيتها خوفاً من انهيار المجتمعات العربية المحافظة التي تجعل من الجنسانية موضوعاً محرّماً، إذ لا يمكن الحديث عن حقوق المرأة الجنسية والتي تتصلّ أساسا بحريتها الكليّة، كونها لا تملك حقّ التصرّف في جسدها.
إنّ الجنسانية في نظري أوّل أبواب الحرية فتحها يكلّف كثيرا ولكن غلقها يكلّف أكثر.
نشير إلى أنّ التراث العربي الإسلامي ولا سيّما في كتب السيرة قد حفل بأحاديث النبيّ محمد عن حقوق المرأة الجنسية ونصائحه التي يوجهها إلى النساء والرجال على حدّ السواء، يمكن الحديث إن صحّ التعبير أنّ أوّل ناد للجنسانية كان في عصر النبوّة ليصبح الحديث اليوم عن الجسد الأنثوي من ضمن الممنوعات والمحاذير بعد أربعة عشر قرنا من الإسلام، فهل يمكن أن تتقدّم أمّة وهي تتكوّر على نفسها رافضة الولادة خوفا من آلام المخاض؟