زيارة ملكية إلى باريس: الرباط وباريس تطويان صفحة الفتور وتفتحان بوابة الشراكة الإستراتيجية

العلكي سومية

بعد سنوات من برود دبلوماسي محسوب وتأجيلات متعددة، تُستأنف العلاقات المغربية الفرنسية على إيقاع جديد، عنوانه “الوضوح الاستراتيجي”. إذ يُنتظر أن يقوم العاهل المغربي الملك محمد السادس بزيارة رسمية إلى باريس في نهاية سنة 2025 أو مطلع 2026، استجابة لدعوة رسمية من الرئيس إيمانويل ماكرون، وفق ما أكده مصدر دبلوماسي رفيع. هذه الزيارة التي طال انتظارها، لا تأتي فقط لتأكيد استئناف الحوار رفيع المستوى بين العاصمتين، بل لترسيخ مرحلة جديدة من التنسيق السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، بعد إعلان باريس دعمها الصريح لمغربية الصحراء وخطة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع.

فرنسا، التي ظلت لسنوات تراوغ في خطابها تجاه قضية الصحراء، اتخذت خطوة جريئة منتصف 2024، حين وجّه الرئيس ماكرون رسالة رسمية إلى الملك محمد السادس، يؤكد فيها أن “المبادرة المغربية هي الأساس الوحيد لحل سياسي عادل ودائم وقابل للتفاوض”، واضعًا بذلك حدًا لعقود من الغموض الاستراتيجي. هذه الرسالة لم تكن فقط ترضية دبلوماسية، بل تحوّلت إلى بوابة لإعادة بناء الثقة، حيث أعادت تموقع باريس في مشهد دبلوماسي متحوّل، تراجع فيه نفوذها في الساحل واشتدت فيه الحاجة إلى شركاء موثوقين، مثل الرباط.

وإذا كانت أجواء الصمت التي طغت على العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة قد حيّرت الرأي العام، فإن تحركات ما وراء الكواليس كشفت عن عمل منهجي لإعادة ضبط العلاقات. اللجنة العليا المشتركة المغربية-الفرنسية، والتي ستنعقد في الخريف المقبل برئاسة رئيسي الحكومتين، ستكون منصة عملية لترجمة الرغبة السياسية إلى إجراءات ملموسة، من الهجرة إلى التعاون الأمني، ومن الاستثمار إلى التنسيق الإقليمي.

الزيارة المرتقبة ليست فقط رمزية أو بروتوكولية. فهي تتزامن مع ظرف دولي ضاغط، حيث تسعى فرنسا لإعادة انتشارها في شمال إفريقيا، بينما يعزز المغرب تموقعه كشريك استراتيجي إفريقي أوروبي، قادر على الجمع بين الاستقرار والتنمية والانفتاح. ملفات الهجرة غير النظامية، التعاون الاستخباراتي، والاستثمار في الطاقات المتجددة ستكون على طاولة النقاش. بل إن مصادر دبلوماسية لا تستبعد أن تُعلن خلال الزيارة عن اتفاقيات ذات طابع نوعي، تشمل مشاريع ضخمة في البنية التحتية أو إنشاء تمثيليات قنصلية فرنسية في الأقاليم الجنوبية.

في هذا السياق، يرى الصحفي والباحث السياسي بوشعيب البازي أن الزيارة المرتقبة “ليست فقط تتويجًا لمسار دبلوماسي طويل، بل لحظة امتحان حقيقي لإرادة باريس في إعادة التموضع الصادق داخل منظومة التحالفات الإقليمية، من دون نزعة وصاية أو ازدواجية خطاب”. ويضيف البازي أن ما يميز هذه المرحلة هو “وعي الرباط بثقلها الجيوسياسي الجديد، ورفضها لأي علاقة تشوبها الانتقائية أو الغموض، سواء في ملف الصحراء أو في ما يتعلق بالشراكة الاقتصادية والأمنية”. ويخلص إلى أن زيارة العاهل المغربي، بما تحمله من رمزية، “قد تكون بداية لتوازن جديد في العلاقات، إذا ما أحسنت فرنسا التقاط إشارات الرباط بذكاء استراتيجي، وليس من موقع رد الفعل أو المصالح الظرفية”.

كما تأتي هذه الزيارة على مشارف احتفالات الذكرى السبعين لاتفاقيات “سان كلو”، التي وضعت الأسس القانونية لتصفية الاستعمار في المغرب. وهو ما يمنح الزيارة بعدًا رمزيًا وتاريخيًا يعيد التذكير بعمق الروابط، رغم ما شابها من فتور أو تباعد في السنوات الأخيرة.

الرهان اليوم لا يقتصر على تحسين الصورة أو إطفاء الحرائق الدبلوماسية. إنه أكبر من ذلك: يتعلق الأمر بإعادة صياغة علاقة استراتيجية قائمة على الندية والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. فالمغرب لم يعد ذلك الشريك الصامت الذي يكتفي بردود الفعل، بل بات يملك أوراق ضغط، وخيارات بديلة، وجرأة دبلوماسية في إدارة ملفاته.

زيارة الملك محمد السادس إلى باريس، إذن، ليست زيارة دولة فحسب، بل لحظة مفصلية لإعادة هندسة علاقة معقدة، غالبًا ما شابتها التوقعات المبالغ فيها أو الأحكام المسبقة. إنها زيارة تثبت أن الشراكة المغربية الفرنسية لا تُبنى على المجاملات أو المصالح الظرفية، بل على وضوح في الرؤية، وتوازن في المواقع، واستعداد لتقاسم المسؤوليات في عالم مضطرب

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: