من التنين إلى الديك: الجزائر تهدي فرنسا ميناء الحمدانية وتودّع الصين بخفيّ حنين

بوشعيب البازي

في خطوة لا تقل طرافة عن عبث السياسة الجزائرية، قررت السلطة في الجزائر التراجع بشكل مفاجئ عن مشروع ميناء الحمدانية، الذي كان يُفترض أن يُبنى بشراكة “استراتيجية” مع الصين، لتفتحه على طبق من ذهب للفرنسيين. نعم، فرنسا نفسها التي شتمها الإعلام الجزائري الرسمي لسنوات، والتي تحوّلت فجأة إلى صديقة يُهرول نحوها كبار المسؤولين بالورود والتنازلات.

فبعدما كانت بكين قاب قوسين أو أدنى من وضع أول حجر في أكبر ميناء أعماق في شمال أفريقيا، جاء رجل أعمال فرنسي يدعى رودولف سعادة، تَناول قهوة مع الرئيس عبد المجيد تبون، وخرج من القصر الرئاسي وعلى ملامحه ابتسامة من يعرف أنه ربح الجولة.

تبون يسحب البساط من التنين ويمنحه للديك

الميناء الذي وُصف ذات يوم بأنه “رئة الجزائر الاقتصادية نحو المستقبل” تبخر فجأة. المدير العام لشركة “سيربور” برر الأمر بأسباب “تقنية ومالية”، بينما يعرف القاصي والداني أن الصين لم تسقط إلا بعد زيارة سعادة، الذي لا يُعتبر فقط أحد أكبر رجال الأعمال في فرنسا، بل أيضا رجل ثقة في قصر الإليزيه وصاحب نفوذ إعلامي لا يُستهان به.

هكذا، بلمسة فرنسية ساحرة، انقلب المشروع من رمز للسيادة إلى ورقة مساومة في علاقة مأزومة مع باريس. والنتيجة؟ تهدئة بين الجزائر وفرنسا على أنقاض حلم صيني كلّف سنوات من المفاوضات والدعاية.

الشروط الصينية؟ فجأة أصبحت “مجحفة”

كان من المعروف أن الصينيين يريدون تنفيذ المشروع عبر قروض من بنوكهم، وبشركاتهم، وبتصاميمهم، حتى كاد المشروع يتحول إلى مقاطعة اقتصادية صينية على التراب الجزائري. لكن الأمر لم يزعج السلطة لسنوات، إلى أن جاء “الفرنسي المناسب في الوقت المناسب”، فتحولت الشروط إلى “مجحفة”، والتكلفة إلى “مبالغ فيها”، وأصبحت الأولوية فجأة لتطوير الموانئ القديمة، مع الاستعانة – صدفة بحتة – بشركات فرنسية.

وماذا عن أصحاب شعار “لا للعودة إلى حضن فرنسا”؟

أين أنتم يا من ملأتم الدنيا صراخاً ضد النفوذ الفرنسي؟ ماذا تفعلون الآن والميناء الحلم يُسلَّم على طبق دبلوماسي لرجل أعمال من باريس؟ الصدمة كانت عنيفة، حتى أن بعض الموالين للسلطة ممن كانوا يصيحون بـ”فك الارتباط مع الاستعمار القديم” أصيبوا بالخرس، أو ربما ينتظرون تعليمات جديدة لتبرير هذا التحوّل المهين.

حين يصبح المشروع السيادي “هدية تصالح”

بحسب تقارير فرنسية، فإن زيارة سعادة جاءت بتوصية رئاسية فرنسية واضحة: أعيدوا وصل الخيوط مع الجزائر عبر الاقتصاد. وما أن صافح تبون حتى تبخر التنين الصيني. مقابل ذلك، ستستثمر مجموعته مئات الملايين من اليوروهات في موانئ الجزائر “المتواضعة”، وربما يُمنح امتياز تسيير أرصفة حساسة، حتى لا نقول استراتيجية.

من سيادة الحلم إلى واقعية الانبطاح

مشروع ميناء الحمدانية كان يُفترض أن يكون بوابة الجزائر نحو المستقبل، نحو أفريقيا، نحو البحار المفتوحة، لكنه انتهى مثل كل شيء في هذا البلد: عالقاً بين الشعارات والصفقات الخلفية.

هل تخلت الجزائر فعلاً عن الصين لأن شروطها غير معقولة؟ أم لأنها قررت أن تُقدّم المشروع قرباناً لتحسين العلاقات مع فرنسا، ولو على حساب مصالحها الإستراتيجية؟

الجواب واضح لمن يقرأ ما بين أرصفة الموانئ المهجورة وملفات الاستثمارات المتنقلة.

في العدد المقبل:

“كيف تحوّل أكبر مشروع لوجستي في شمال أفريقيا إلى نكتة سيادية تُروى على موائد الشاي في باريس؟”

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: