في المغرب، حين يُعيّن أحدهم وزيرًا، لا يُعدّ الأمر انتقالًا من رتبة مواطن إلى رتبة مسؤول، بل أقرب إلى انقلاب اجتماعي يُضاهي ما عاشه سندباد حين وجد المصباح السحري. لا يتعلق الأمر فقط براتب شهري يتجاوز 57.000 درهم ، وهو ما يعادل عشرين ضعف ما يكسبه مغربي من الطبقة المتوسطة بل بحزمة سخية من “الامتيازات” تجعل من الوزير كائنًا فوق القوانين، فوق الأزمات، وفوق الشعب نفسه.
سيارة الدولة… بل سيارتان!
الوزير المغربي لا يكتفي بعجلة القيادة نحو الإصلاح، بل يُزفّ على متن سيارتين فارهتين، تفوق قيمة الواحدة منهما 500.000 درهم، مجهزتين بما يكفي لمقاومة الزلازل وحفر الطرقات والمطبات السياسية. وبالطبع، فبنزينها، وصيانتها، وتأمينها، وحتى زيتها عند تغييره، مدفوع من ميزانية الشعب.
الوزير في منزله… راحة 5 نجوم
حين يعود السيد الوزير إلى قصره ، عفوا دارًا بسيطة كباقي المواطنين تنتظره شغالتان لا لتخدماه بصفته ربّ عمل، بل بصفته موظفًا عموميًا يستحق “تعويضًا” عن مشقة الوطنية. أما فواتير الماء والكهرباء، وحتى الأنترنيت ذو السرعة الفضائية، فتتكفّل بها خزينة الدولة، ربما بدعوى أن “الفكر الوزاري لا يجب أن يُقطع عنه النور”.
سفر بلا جمارك، أكل بلا فواتير
هل يحتاج الوزير إلى تنقل بين المدن؟ مرحبًا بالطريق السيار المجاني، فالبوّابات تفتح أمامه كأنه في VIP lane إلى الجنة. أما الطعام والشراب، سواء في المكاتب أو خلال الجولات الميدانية القليلة، فمدفوع من أموال الشعب أيضًا، ربما لأن البطون الوزارية لا تهضم على نفقتها الخاصة.
الوزير لا يُحاسب، الوزير يُكرّم
بل إن الوضع لا يقتصر على الوزراء. السفراء، الكتاب العامون، كبار المدراء… كلهم داخلون في زمرة “الخُدّام الممتازين”، لا بفضل إنجازاتهم، بل بفضل نظامٍ يكرّس الامتيازات بدل المسؤوليات. وكأن الوظيفة العمومية في المغرب ليست تكليفًا، بل تشريفٌ على حساب العامة.
قارن… ولا تُصدم!
في السويد، مثلًا، يتنقل الوزراء بوسائل النقل العمومي. في هولندا، يقود الوزير دراجته نحو البرلمان. في كندا، يدفع الوزير فواتيره كأيّ مواطن. أما في المغرب، فالدولة تدفع… و”الشعب يسكت”.
إنها مفارقة مغربية بامتياز: الوزير يُعيّن ليخدم الشعب، فيتحول فجأة إلى سيّد يُخدَم من الشعب. وكأن “الوطنية” تُقاس بعدد الامتيازات لا بعدد الإصلاحات. حتى أن المواطن البسيط قد يتساءل: “هل أنا من يدفع ضرائب لأحصل على مدرسة وشارع نظيف؟ أم لأموّل مصاريف الشاي والأكل في الاجتماعات الوزارية؟”
أحد أكثر بنود الميزانية الوزارية إثارة للغثيان هو ما يسمى بــ**“تعويضات المهام بالخارج”**. لا نتحدث هنا عن السفر في الدرجة الاقتصادية، ولا عن سكن متواضع بجانب مقر المنظمة الدولية. نحن أمام حفلة مفتوحة من الفواتير، الإقامات الفاخرة، و”بير دييم” بالدولار أو اليورو، تعويض يومي يصل أحيانًا إلى أجر موظف مغربي طيلة شهر… فقط لأن “سعادة الوزير” سيحضر منتدى عن الفقر العالمي، من جناحه المطل على البحر.
الوزير لا يسافر لوحده طبعًا، بل برفقة “وفد”، يضم مستشارين، و”صديق خبير في البروتوكول”، وربما حتى مسؤول العلاقات العامة الذي يتولى مهمة تصويره في المطار وتغريدته على تويتر: “وصلنا بحمد الله إلى واشنطن لخدمة الوطن العزيز!”.
وفي حين تُشدد دول مثل ألمانيا والسويد على تقليص وفود الوزراء، وتحاسب على كل فاتورة قهوة، تجد في المغرب الوزير يُسافر، يُنفق، يُمضي أسبوعًا في الفندق، ثم يعود ليُعدّ تقريرًا من ثلاث صفحات، منها اثنتان عنوان وتحية، والثالثة مليئة بالكلمات الرنانة مثل “تبادل الخبرات” و”تعزيز العلاقات الثنائية” و”رؤية استراتيجية مستقبلية”… ولا أحد يجرؤ على سؤاله: وماذا استفدنا؟
تذكرة الوزير ليست كتذكرة المواطن
سفر الوزير يتم غالبًا في الدرجة الأولى، أو درجة رجال الأعمال على الأقل، لأن “هيبة الوطن” لا تُحمل في الدرجة السياحية. أما الإقامة، فتكون في فنادق خمس نجوم، مزوّدة ببوفيه مفتوح وSPA، حتى لا يشعر الوزير بوحشة البعد عن المكتب، أو ربما عن الشغالتين.
كل هذا يُصرف من ميزانية الدولة، وتُحتسب له تعويضات إضافية عن كل يوم قضاها خارج الوطن، وكأن الوطنية تتعزز بزيادة عدد الأصفار على شيك التعويض.
في انتظار رحلة العودة… إلى الواقع
المفارقة أن هذه المهام الخارجية، التي غالبًا ما تكون رمزية أو بروتوكولية، لا تُقاس بمردودية حقيقية على السياسات العمومية. المواطن لا يرى أثرًا لها، ولا تقريرًا مفصلًا عن نتائجها، فقط صورًا في الجرائد الرسمية وعبارات فضفاضة من قبيل: “وقد أبان الوزير عن كفاءة عالية في تمثيل البلاد في المحفل الدولي”… تمثيل؟ أم تنزه ممول
إلى متى؟
ربما آن الأوان لمراجعة مفهوم “الامتياز”، لا بوصفه مكافأة، بل بوصفه عبئًا على ميزانية مثقلة أصلًا. الوزير، في النهاية، ليس نجمًا سينمائيًا ولا وريثًا لعرش، بل موظف عمومي يفترض به أن يشتغل بضمير، لا أن يركب فوق جيوبنا.
أما نحن، فسنظل نراقب… ونسخر، إلى أن يُصبح خادم الدولة حقًا خادمًا للدولة، لا خادمًا لنفسه.