في مشهد يليق بمسرح العبث، حاول بعض نواب اليسار الإسباني تمرير مشروع قانون يمنح “جنسية محتملة” لأشخاص يحملون “وثائق محتملة” صادرة عن “دولة محتملة” تُدعى البوليساريو. لحسن الحظ، لم يكن البرلمان الإسباني في عطلة مدرسية، فالتاريخ شهد لحظة نادرة من التعقّل القانوني، بعدما خرجت الحكومة الإسبانية بموقف واضح: لا اعتراف بأي ورقة تصدر عن كيان لا وجود له في القانون الدولي.
بكلمات أخرى: من لا يملك سيادة، لا يُصدر جواز سفر. ومن لا يُعترف به كدولة، لا يُطالب بجنسية دولة قائمة.
“سومار” يطرح… والحكومة تشطبه
حاول ائتلاف “سومار” اليساري، المعروف بميله لكل ما هو “ثوري على الورق”، تمرير مقترح قانون يسمح لسكان مخيمات تندوف بالتقدم للحصول على الجنسية الإسبانية، مستندين إلى أوراق أعدّتها جبهة البوليساريو خصيصًا لمثل هذه المغامرات القانونية.
غير أن الحكومة الإسبانية، بقيادة الحزب الاشتراكي العتيد، لم تُرد أن تتحول مدريد إلى ساحة لاختبارات الهوية الإيديولوجية، فأجهزت على المقترح من داخل لجنة العدل البرلمانية، عبر تعديل لا يقبل التأويل ، لا اعتراف بوثائق تصدر عن كيان لا تعترف به إسبانيا، ولا الأمم المتحدة، ولا أي أحد سوى مندوبي الجبهة في ساحة الرابوني.
الوثائق “الوهمية” والهوية “المؤقتة”
المثير للسخرية أن البوليساريو، التي تعاني من فراغ سيادي مزمن منذ 1976، لا تزال تُوزع وثائق هوية كما تُوزع بطائق العضوية في نادٍ مغلق. المشكلة أن هذه “الهوية” لا تُفتح بها حسابات بنكية، ولا تُركب بها الطائرات، ولا تُعتَبر سندًا لطلب جنسية. لكنها مفيدة جدًا في التجمعات الخطابية، والندوات الممولة من عواصم تجاوزت فيها ميزانيات النوايا ميزانيات الواقع.
قرار إسبانيا، إذًا، ليس مجرد رفض إداري، بل ضربة قانونية مع سبق الإصرار للمتاجرة السياسية بقضية إنسانية. فبينما تسوّق الجبهة الوهم، يعاني الآلاف في تندوف من بطالة قانونية مزمنة، لا جوازات حقيقية، ولا جنسية مضمونة، فقط أحلام مؤجلة بقرارات تصدر في مدريد أو نيويورك.
مدريد تختار الوضوح.. والرباط تحصد الثمار
هذا التحوّل الإسباني لم يأتِ من فراغ. فمنذ أن قرّر بيدرو سانشيز أن يتوقف عن عضّ أصابعه كلما ذكرت كلمة “الصحراء”، انتقل موقف إسبانيا من المنطقة الرمادية إلى خانة الضوء. رسالته إلى الملك محمد السادس، والتي وصف فيها مقترح الحكم الذاتي المغربي بأنه “الأكثر جدية ومصداقية”، لم تكن زلة قلم، بل كانت أولى صفحات كتاب جديد في العلاقات المغربية الإسبانية.
اليوم، تُترجم هذه المواقف إلى قوانين وقرارات تشريعية، تكشف لمن يريد أن يرى أن إسبانيا، الدولة التي كانت بالأمس الاستعمار السابق، أصبحت الحليف الواقعي، والقوة الأوروبية التي تُقفل أبواب التسلل القانوني أمام “الهوية المفبركة”.
البوليساريو: العزلة بختم رسمي
بالنسبة للبوليساريو، القرار الإسباني ليس فقط صفعة دبلوماسية، بل أيضًا فضيحة قانونية، لأنها المرة الأولى التي يتم فيها التنصيص صراحة على أن وثائقها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به في أعين دولة أوروبية كبيرة.
وبينما يواصل بعض النشطاء ترديد عبارات “تقرير المصير” في قاعات مغلقة، يُدرك قادة الجبهة أنهم يخسرون جولة تلو الأخرى على الأرض، دول تغلق قنصلياتها المؤقتة، منظمات تسحب اعترافاتها القديمة، وبرلمانات تُدرّس معنى السيادة قبل التصويت.
ما بعد الوثائق.. إنسان تائه وجنسية بلا مستقبل
لكن خلف هذه الحرب الباردة بين التشريعات والدبلوماسية، هناك إنسان حقيقي يعيش في تندوف، لا يملك من أوراق الهوية إلا ما طبعته آلة صدئة في الرابوني. لا هو مواطن جزائري، ولا هو حامل لوثائق دولة معترف بها، فقط رقم في خريطة إنسانية معلقة، ينتظر من المجتمع الدولي أن يتذكر أن الكرامة لا تصدر بـ”الكوطة”.
في هذا السياق، يُسجَّل للقرار الإسباني جانب إنساني نبيل، لأنه يضع حدًا لمتاجرة قادة الجبهة بمآسي سكان المخيمات، ويدعو – ضمنيًا – إلى حلّ واقعي ينقذهم من جحيم “الهوية المتخيلة”، ويدفع باتجاه تسوية تنطلق من الأرض لا من خيمة دبلوماسية مهترئة.
الوثيقة لا تصنع وطنا.. والسيادة لا تُفبرك في المطابع
قرار مدريد الأخير رسالة واضحة ، من أراد أن يبني كيانًا، عليه أولًا أن يبني شرعية. ومن أراد أن يمنح الهوية، فليكن معترفًا به على الأقل في قاعة الأمم المتحدة، لا فقط في خريطة “أحلام ما بعد الاستعمار”.
وها هو المغرب، بثبات أعصابه الدبلوماسية، يُراكم الانتصارات بهدوء. لا شعارات، لا صراخ، فقط سياسة واقعية تتقدم خطوة بخطوة، حتى أضحت مغربية الصحراء مسألة وقت لا موضوع نزاع.
ومن لم يدرك بعد، فليُراجع القوانين الإسبانية الجديدة.. وليتأكد من صلاحية جوازه قبل تقديم الطلب.