في الزوايا المظلمة للدبلوماسية المغاربية، حيث تُدار الأزمات بالنكران أو بالأرشفة البيروقراطية، تطفو مأساة إنسانية ثقيلة، لا تثير بيانات رسمية ولا تُحرك ساكنًا في دهاليز الوزارات. إنها قضية المغاربة العالقين في الجزائر، أولئك الذين لا يشملهم التأمين الحدودي، ولا يرد ذكرهم في نشرات الساعة التاسعة، لأنهم ببساطة لا يملكون “وضعًا قانونيًا واضحًا”، ولا حتى صوتًا مسموعًا.
هؤلاء ليسوا مهاجرين غير شرعيين، ولا مجرمين عابرين للحدود، بل ضحايا لعطب سياسي مزمن، يُدعى “القطيعة الجزائرية المغربية”، والتي يبدو أنها لم تكتف بقطع العلاقات الدبلوماسية، بل قررت أن تقطع معها أبسط أشكال الإنسانية.
إحصاءات على الورق.. ووجوه في النسيان
بحسب ما كشفه الناشط الحقوقي حسن عماري، فإن عدد المغاربة العالقين في الجزائر تجاوز رسميًا 682 شخصًا، وقد يصل فعليًا إلى أكثر من 1000، بين معتقلين ومفقودين ومبعدين قسرًا. لكن لا أحد في الرباط أو الجزائر يبدو في عجلة من أمره لتدقيق هذه الأرقام أو الرد عليها، لأن المشهد – على ما يبدو – أقل إثارة من نتائج قرعة كأس إفريقيا.
ما يبعث على الذهول هو أن 39 امرأة مغربية أُدينت بنفس العقوبة وبنفس الحُكم: سنة واحدة، كما لو أن القضاء الجزائري يستخدم قالبًا جاهزًا يصب فيه التهم والأحكام على طريقة “كوكي كاتّر”، بدلًا من أن يراعي مبدأ المحاكمة الفردية العادلة.
أما الاحتجاز الإداري، فهو موضة حقوقية جديدة تُمارس بهدوء، حيث يُمكن أن تُعتقل لشهور دون محاكمة، فقط لأنك “لا تملك ورقة مناسبة” أو لأنك مغربي في زمن سوء الجوار.
“زوج بغال”: معبر حدودي أم نكتة سوداء؟
المعبر الحدودي الشهير “زوج بغال”، الذي يحمل اسمًا يبدو مستعارًا من مسرح العبث، صار اليوم شاهدًا على عمليات ترحيل قسرية لا تراعي لا قانونًا دوليًا، ولا كرامة إنسان، ولا حتى ميثاق الجوار الذي دُفن مع اتفاق مراكش سنة 1989.
المهاجرون المغاربة يُرمون عند هذا المعبر كما تُلقى الأمتعة التالفة في المطار، لا قنصلية، لا ضمانات، لا سجل رسمي. فقط أفراد منهكون، محملون بذكريات سجون مجهولة، ينتظرون من يعيدهم إلى حضن بلد لا يتذكّرهم إلا عندما يرتفع منسوب الوطنية في خطابات المناسبات.
صمت رسمي.. و”نوايا طيبة” لا تسمن ولا تحمي
لنتحدث بوضوح: أين الخارجية المغربية من كل هذا؟ وهل تنتظر أن تفتح الجزائر سفارتها في الرباط كي تطالب بجثامين المغاربة المتوفين؟ هل نحتاج إلى وسيط أممي لإحصاء أبناء هذا الوطن في معتقلات تلمسان ووهران؟
ثم، أليست هذه القضية أكبر من مجرد ملف حقوقي؟ أليست مرآة مكسورة لما وصل إليه حال الاتحاد المغاربي؟ أم أن المصير الإنساني صار رهين حسابات الربح والخسارة في قنوات الأخبار؟
حين تصبح الحدود زنزانة.. والتاريخ مجرد حنين
الخبير في القانون الدولي ياسين البركاني قالها بوضوح: ما يحدث هو خرق صريح للاتفاقيات الدولية، وخصوصًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية حماية العمال المهاجرين.
لكن من يهتم؟ هل تتصدر هذه المعطيات تقارير مجلس حقوق الإنسان في جنيف؟ هل يناقشها النواب في البرلمان؟ أم أنها ببساطة تُصفّى ضمن لائحة الانتظار، إلى حين انفراج سياسي غير مضمون؟
الواقع أن 28 ألف أسرة مغربية تقيم في الجهة الشرقية ما تزال تربطها صلات رحم مع أسر في غرب الجزائر، لكنها تعيش منذ سنوات على أمل “معجزة دبلوماسية” قد تعيد لهم شيئًا من ماضي كان فيه التنقل بين وجدة وتلمسان لا يحتاج أكثر من سلام.
ما العمل؟ حين يغيب العقل وتتكلم الجغرافيا
في ظل هذا العبث السياسي، تبقى المطالبة بتحرك مدني وإعلامي واسع هي الورقة الأخيرة في يد الجمعيات الحقوقية. فكما قال عماري، السكوت لم يعد ممكنًا، و”الترحيل القسري” يجب أن يُستبدل بـ”العودة الكريمة”، حتى لو تطلب الأمر تدخل طرف ثالث، أو “وصاية أممية مؤقتة على ضمير المنطقة المغاربية”.
المطلوب ليس كثيرًا: كشف مصير المفقودين، محاكمة عادلة للمعتقلين، تسليم جثامين المتوفين، وضمان ألا يُعامل المغربي خارج بلده كمتسلل أو كائن فائض عن الحاجة.
مأساة بلا تأشيرة.. والكرامة في قائمة الانتظار
لسنا بصدد أزمة سياسية بين نظامين فقط، بل أمام مأساة مكتملة الأركان، تُخرق فيها القوانين الدولية، وتُسحق فيها كرامة الإنسان، وتُباع فيها الروابط الأسرية في سوق البغضاء السياسية.
إن لم تستفق الحكومات، فعلى الأقل، فلتُسمع أصوات هؤلاء في الصحافة، ولتُرفع صورهم في المنابر الدولية، ولتُعاد لهم أبسط حقوقهم: الاسم، العنوان، والحق في وطن لا ينسى أبناءه عند الحدود.