فلسطين وسط ضجيج العالم: حين تتحول المأساة إلى هامش في وعي جماعي منهك

حنان الفاتحي

تتواصل الحرب في غزة بفظائعها اليومية، وسط صمت دولي متزايد لا يليق بحجم الكارثة. فعلى الرغم من الجولات التفاوضية المتقطعة، لا تلوح في الأفق أي بوادر لوقف إطلاق النار، فيما يتساقط الآلاف بين قتيل ومهجّر. ومع ذلك، فإن ما كان في يوم من الأيام محورًا رئيسيًا في نشرات الأخبار وشاشات الرأي العام، بات يتراجع إلى هوامش الوعي العالمي، في زمن تتكدّس فيه المآسي وتضعف فيه ذاكرة المتلقي بفعل تسارع الأزمات وتدفق المحتوى الرقمي.

ما يحدث اليوم في غزة ليس فقط إبادة جماعية بالمعنى القانوني والسياسي، بل هو أيضًا اختبار قاسٍ لقدرة العالم على التفاعل الأخلاقي. إذ تبدو مشاهد الموت والدمار وقد فقدت قدرتها على الصدمة، وتحوّلت إلى مشاهد اعتيادية لا تثير إلا تأففًا عابرًا قبل أن تُطوى تحت سيل أخبار الاقتصاد والتكنولوجيا والمناخ.

الاهتمام المتراجع لا يعكس فتورًا إعلاميًا فحسب، بل يكشف تحولات أعمق في المشهد الدولي: عالم يعيش انتقالات جيوسياسية سريعة، وصعود أدوات جديدة للهيمنة، فيما تزداد المنصات الرقمية قدرة على إثارة الانفعال، دون أن تقوى على تحويله إلى فعل سياسي فعّال. فحتى صور الفظائع حين تُستهلك خارج السياق، تصبح جزءًا من تطبيع الألم، بدل أن تكون حافزًا للمحاسبة.

في المقابل، تكشف الأزمة أنّ كثيرًا من الفاعلين في المشهد الفلسطيني ما زالوا أسرى نماذج مقاومة تقادمت، وخرجت من سياق العصر. إذ لا يزال الخطاب المسلّح لحركة “حماس”، وإن استند إلى شرعية الغضب، عاجزًا عن تقديم رؤية استراتيجية لمستقبل التحرير أو التنمية. ومن الجهة الأخرى، تواصل إسرائيل تسويق سردية الأمن والدقة التكنولوجية، فيما تتراكم على الأرض شواهد الإبادة والانتهاكات الجماعية.

إن موازين القوى العالمية تغيّرت: لم يعد الصوت الأعلى لمن يرفع الشعارات، بل لمن يصنع التحالفات ويطوّع الأدوات ويستثمر في النفوذ. وهذا ما أدركته دول عربية مثل الإمارات والسعودية، التي اختارت مقاربة براغماتية وإن كانت محل انتقاد، فإنها باتت تمتلك أدوات ضغط فعلية، بعكس الدول التي تزايد على القضية دون أن تقدّم ما يتجاوز التصريحات.

تركيا، رغم خطابها التصعيدي، أبقت على شعرة معاوية الاقتصادية مع إسرائيل لسنوات، ولم تضع الثقل السياسي اللازم لترجمة تصريحاتها إلى مواقف فعّالة. وقطر، وإن أدّت دور الوسيط، فإن انخراطها في القضية كان محكومًا أيضًا بمنطق التوازنات الإقليمية والمصالح الدبلوماسية. أما إيران، التي تتغنى بالممانعة، فقد بدت أكثر حرصًا على سلامة وكلائها من خوض مواجهة مباشرة قد تكلّفها أثمانًا باهظة.

اليسار العربي، الذي لطالما تبنّى القضية الفلسطينية كأيقونة نضالية، فقد بوصلته مع الزمن، وباتت مواقفه تفتقر إلى التجديد والرؤية، فيما تحوّلت كثير من مظاهر التضامن إلى فولكلور رمزي، يجمّل المشهد لكنه لا يغيّر الواقع.

وفي الغرب، رغم بروز حراك طلابي متضامن مع فلسطين، إلا أن هذا الحراك ارتكب أخطاءً إستراتيجية وأخلاقية، جعلت خصومه ينجحون في عزله وتشويه نواياه، عبر التركيز على شعارات فضفاضة لا تملك عمقًا سياسيًا ولا أخلاقيًا راسخًا.

في هذا السياق، لم يعد ممكناً تجاهل التحوّل العميق الذي يقوده العقل العربي البراغماتي، الذي فهم أن التأثير لا يأتي من رفع الصوت، بل من التفاوض الذكي، وبناء التحالفات، والتفكير في حلول تتجاوز العنف وتدخل في صلب إعادة بناء الشرعية الفلسطينية، داخليًا وخارجيًا.

نعم، القضية الفلسطينية ما زالت حية في وجدان الشعوب. لكنّ زمن البكاء على الأطلال قد ولّى، ولم يعد كافيًا أن نطالب الآخرين بما لا نمارسه نحن. المطلوب اليوم أكثر من المواقف: هو العمل الإستراتيجي، والنضال الذكي، والانخراط الواعي في صراع طويل النفس، لا يتحقق إلا بإعادة رسم الأولويات، وبناء مؤسسات فلسطينية موحّدة، واستثمار اللحظة الإقليمية الجديدة التي قد لا تتكرّر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: