في واقعة لا تخلو من عبث سياسي ونرجسية في غير محلها، قرّر عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، أن يخرج من صمته — أو من سباته السياسي العميق — ليشنّ هجوماً لا مبرر له ولا مسوغ، إلا ربما شعوره الحاد بأن الزمن تجاوزه، وأن لا أحد بات يكترث لما يقوله إلا إذا حمل تصريحاته على محمل الكوميديا السوداء.
هذه المرة، لم يجد السيد بنكيران أفضل من المؤسسة العسكرية ليُمارس عليها هوايته المفضّلة: الثرثرة المبطنة بخطاب ديني مشحون وادعاءات بطولية فارغة. فقد تجرأ — وبكل بساطة — على التطاول على القوات المسلحة الملكية، حامية الحمى ورمز السيادة الوطنية، متناسياً أن هذه المؤسسة لا تخضع لمزاج سياسوي عابر، ولا تتلقى تعليماتها من زعامات “فايسبوكية” معتزلة، بل من القائد الأعلى ورمز وحدة البلاد، جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
ما الذي يدفع رجلاً خرج من المشهد السياسي بخفّي حنين، وأُقصي ديمقراطياً، إلى خوض معركة خاسرة مع مؤسسة لا تُنازع في شرعيتها؟ هل ضاقت به قنوات المعارضة حتى بات يرى في الجيش خصماً انتخابياً؟ أم أن الطموح المؤجل عاد يراوده، بعد أن تبخر حلم “الخلافة” وذاب في قدَح شاي معسّل في “الفيلا” الزجاجية؟
بنكيران، الذي لا يتورّع عن ارتداء عباءة الواعظ حين يشاء، نسي—or تجاهل عمداً—أن الحديث عن قرارات الجيش ومهامه، هو حديث في صميم السيادة الوطنية، وأن أي إشارة مسيئة تجاهها، ولو مغلفة بخطاب ديني أو وطني، إنما هي طعن مباشر في قرارات القائد الأعلى، وتطاول على مقام دستوري لا يسمح بالتأويل ولا الجدال.
لا، يا سي بنكيران. الجيش ليس فرعاً حزبياً، ولا هيئة شورى، ولا هو موضوعاً يصلح لـ”الخطبة” والتباكي على منابر السياسة البائدة. الجيش مؤسسة دستورية تعمل تحت قيادة ملكية سامية، واستراتيجيته ليست مجالاً مفتوحاً للاجتهادات العشوائية ولا لتصريحات منتهية الصلاحية.
والأخطر من ذلك: أن الخطاب الذي تبناه بنكيران لا يندرج ضمن حرية التعبير، بل يُشمّ فيه رائحة التجييش العاطفي والتحريض الضمني، وهو أسلوب لطالما أتقنه تياره الإخواني حين تعوزه الحجة ويفقد السيطرة على قواعده.
أيها “الزعيم المتقاعد”، لا الجيش ينتظر موعظتك، ولا الوطن يفتقر إلى نصائحك. فمؤسسة القوات المسلحة الملكية لم تكن يوماً محلّ نقاش عند المغاربة، لأنها فوق الحسابات، وخارج معادلات التسييس. هي درع الوطن، ودرعه لا يُرشق بالحجارة.
لقد تجاوزت حدود النقد، واقترفتَ إساءة في حق مؤسسة لا يعلو فوقها سوى العلم الوطني. والمقلق في الأمر ليس فقط ما قلته، بل ما توحي به نبرتك: نزعة عدمية، وميل خطير إلى “تشريع” التأليب على القرارات السيادية، تحت غطاء “الرأي الحر”.
وهنا نقولها بصوت مرتفع: هذا ليس رأياً، بل طعنة في خاصرة الوطن. هذه ليست معارضة، بل مغامرة فاشلة في حقل ألغام وطني لا يحتمل اللعب.
الجيش المغربي ليس خصماً سياسياً، بل خط أحمر، ومن يحاول العبث معه، إنما يعبث مع الوطن كله.
أما أنت، يا سي بنكيران، فاختر ما تشاء من ألوان التقاعد السياسي، واستمتع بصدى خطابك في أروقة الماضي، لكن رجاءً… دع الجيش وشأنه.