تقرير أمني فرنسي يكشف تغلغل “الإخوان” في المجتمع وتمويلات مشبوهة لتهديد قيم الجمهورية
سومية العلكي
عقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجلسًا للدفاع في قصر الإليزيه، خصصه لمناقشة تقرير أمني وصف بـ”الخطير والحساس”، حول تنامي أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا. التقرير، الذي أعد بتكليف مشترك من وزارات الداخلية والخارجية والدفاع، حذّر من “اختراق واسع النطاق” للمجتمع الفرنسي، عبر شبكة متعددة الأذرع تشمل مساجد وجمعيات خيرية ومدارس ومؤسسات تعليمية، تستغلها الجماعة كمنصات للتجنيد والتأطير العقائدي، في ما اعتبره التقرير “حربًا ناعمة” ضد قيم الجمهورية.
وأوضح التقرير أن هذه الأنشطة تحظى بدعم مالي منظم، مصدره مؤسسات قطرية وخليجية، وتُغطى بخطاب حقوقي موجه، يرتكز على خطاب المظلومية واللعب بورقة “الإسلاموفوبيا”، مع التمسك بخطاب ديني يعلي الشريعة على القانون، ويكرس الكراهية تجاه اليهود، ودونية المرأة، ورفض التعددية الدينية والفكرية.
تقرير استخباراتي شامل
حمل التقرير عنوان: “الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا”، وأشرف على إعداده دبلوماسي فرنسي ومسؤول أمني بارز، قاما بجولات ميدانية داخل فرنسا وأربع دول أوروبية، والتقيا بنحو 45 أكاديمياً ومسؤولاً وخبيراً من تيارات فكرية متباينة، إضافة إلى فاعلين من الجالية المسلمة ومسؤولين محليين.
جذور أيديولوجية ممتدة
عاد التقرير إلى جذور التنظيم، الذي تأسس في مصر سنة 1928، على يد حسن البنا، في سياق الانهيار العثماني، وصعود الهيمنة الاستعمارية. وقدّم التقرير قراءة مفصلة للبنية التنظيمية الهرمية للجماعة، والتي استلهمها البنا من الطرق الصوفية، مع إضفاء طابع حركي شامل، يزاوج بين الدعوة والتربية والسياسة، ضمن رؤية تعتبر أن الإسلام “دين ودولة”.
ويشير التقرير إلى أن المشروع الإخواني قام منذ البداية على أطروحة “الأسلمة من القاعدة”، أي أسلمة المجتمع تمهيدًا لأسلمة الدولة، عبر عمل تربوي طويل النفس، يراهن على الزمن والتغلغل لا على المواجهة المباشرة.
وصول إلى السلطة… وسقوط سريع
في استعراضه للمسار السياسي للحركة، أشار التقرير إلى الصعود القوي للإخوان عقب موجة الربيع العربي، حيث تمكنوا من بلوغ الحكم في تونس ومصر والمغرب. غير أن التجربة انتهت بانقلاب عسكري في مصر عقب احتجاجات شعبية ضد أسلوب حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، بينما اندمجت حركة النهضة التونسية بشكل أكثر مرونة في المنظومة السياسية، متبنية خطابًا براغماتيًا وتحالفات متعدّدة.
أما في المغرب، فقد استمر حزب العدالة والتنمية في الحكم لعقد كامل (2011-2021)، بفضل قبوله بقواعد اللعبة السياسية واعترافه بشرعية الملك، بما في ذلك في الشأن الديني. بالمقابل، أشار التقرير إلى وجود جماعة العدل والإحسان كامتداد فكري آخر للإخوان، لكنها تتخذ موقفًا أكثر راديكالية، مع احتفاظها بحضور مجتمعي لا تتصادم معه السلطات بشكل مباشر.
تغلغل متصاعد في فرنسا
ركز التقرير بشكل خاص على الأنشطة الإخوانية في فرنسا، متوقفًا عند نشأة “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” عام 1983، والذي غيّر اسمه إلى “مسلمو فرنسا” سنة 2017، ويعد اليوم الذراع الرسمية للجماعة في البلاد. ويتولى رئاسة التنظيم منذ 2021 الإمام محسن نجازو، الذي يدير أيضًا المعهد الديني ابن خلدون في مرسيليا.
ووفق التقرير، فإن قادة هذا الاتحاد يشغلون مناصب مؤثرة في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وتتمتع فرنسا بأكبر عدد من الممثلين فيه (10 مقاعد). ورغم أن عدد الأعضاء المعتمدين في التنظيم لا يتجاوز بضع مئات، إلا أن تأثيره يمتد إلى آلاف المنتسبين غير الرسميين، خاصة داخل المساجد والجمعيات المحلية.
تمويلات خارجية وتوظيف سياسي
كشف التقرير أن التنظيم يتلقى تمويلات سخية من مؤسسات قطرية وخليجية، عبر قنوات تبدو قانونية، لكنها تخدم أجندة سياسية بلبوس ديني. واعتبر أن الهدف الاستراتيجي يتمثل في إعادة تشكيل جزء من المسلمين الفرنسيين كجماعة متمايزة ثقافيًا وأيديولوجيًا عن محيطها، وإضعاف مبدأ “اللائكية” الذي يشكل حجر الأساس في الهوية الجمهورية الفرنسية.
وأضاف التقرير أن الجماعة تسعى، عبر خطابها “المعتدل ظاهريًا”، إلى إعادة إنتاج فكر يقوم على الفصل بين المسلمين وغير المسلمين، وتسويق خطاب الهوية الدينية كبديل للهوية الوطنية، مما يعزز النزعة الانعزالية ويهدد التماسك الاجتماعي.
أوصى التقرير باتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز الرقابة على تمويل الجمعيات الدينية، وفرض شفافية أكبر على المساجد والمراكز التعليمية الخاصة، وتشديد الرقابة على الجمعيات المتورطة في نشر الفكر الإخواني أو المرتبطة بجهات خارجية.
كما دعا إلى إعادة تقييم العلاقة مع بعض “شركاء الإسلام الفرنسي”، وتحديث الآليات المؤسساتية التي تسمح بتمثيل المسلمين، من دون السماح لأجندات سياسية دينية باختراقها.
التقرير، الذي اعتبرته الصحافة الفرنسية “ناقوس خطر”، يعيد طرح السؤال الأهم: كيف يمكن حماية الحرية الدينية دون السماح باستغلالها لتقويض أسس الجمهورية؟ وهل باتت فرنسا بحاجة إلى إعادة هندسة علاقتها مع “الإسلام السياسي” عبر استراتيجية أكثر وضوحًا وحزمًا؟
في ظل هذا التهديد المتنامي، يبدو أن الإليزيه قرر الانتقال من منطق “المراقبة” إلى منطق “المواجهة المؤسساتية” مع تنظيمات لا تؤمن بالجمهورية، لكنها تتغذى من داخلها.