في عالم يكاد يختلط فيه النفاق بالحياد، تبرز كندا هذه الأيام كدولة تُجيد فن الجمع بين الادّعاء بمحاربة الإرهاب… والتغاضي عن بثّه المباشر من أراضيها. والبطولة هذه المرة تعود، مناصفة، إلى الإرهابي الهارب هشام جيراندو، ومنصته الرقمية التي يبدو أنها تستمد بعض وقودها من… إيران، نعم إيران، تلك الدولة التي تصفها كندا نفسها، ومنذ سنين، بـ”الراعية للإرهاب”.
المعطيات ليست إشاعات تروجها “جهات معلومة”، بل بيانات موثقة في منصة الشفافية الخاصة بـ”ميتا”، تؤكد أن أحد مديري صفحة “tahadi.info” المشبوهة، التي يبث عبرها جيراندو فيديوهاته المليئة بالتحريض والكراهية، يشتغل من داخل الأراضي الإيرانية. وعليه، نكون أمام شراكة رقمية بين من يُفترض أنه “لاجئ سياسي” في كندا، وبين أحد العناصر النشيطة داخل دولة تحت العقوبات الدولية… على بعد كبسة زر من “فيسبوك”.
السؤال ليس إن كان جيراندو يحرض، فهذا أصبح من البديهيات. بل السؤال ، من هو هذا المدير الإيراني (أو المقيم بإيران) الذي يشاركه تحريك ماكينة التحريض؟ هل هو مجرد تقني ضائع في الصحراء السيبرانية؟ أم جسر إعلامي تابع لجهة استخباراتية تستثمر في “غضب الميكروفون” وتحوّله إلى أدوات فوضى وتشهير؟
المثير للدهشة (أو للسخرية السوداء) أن هذه الصفحة – وباقي صفحات “جيراندو آند كو” – لا تبث فقط من كندا، بل أيضًا من دولة أخرى يعرفها المغاربة جيدًا: إنها إيران، التي قطع معها المغرب العلاقات الدبلوماسية في 2018، بعد أن ثبت دعمها العسكري المباشر لجبهة البوليساريو عبر تنظيم حزب الله… التنظيم الذي تصنّفه كندا نفسها منظمة إرهابية! هل من مزيد؟
هكذا إذن، نجد أنفسنا أمام معادلة سريالية: جيراندو يحرّض من كندا، يُبثّ من إيران، ويستهدف المغرب، في وقت تواصل فيه كندا تقديم نفسها كحامية لحقوق الإنسان ومحاربة التطرف. أما شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”، فهي كعادتها تمارس هوايتها المفضلة: “نحن منصات ولسنا شرطة العالم”، رغم أن خوارزمياتها قادرة على كشف محتوى طبق طاجين قبل أن يُطهى.
السياق لا يقل عبثًا عن الشخص. فهشام جيراندو، الذي يقدم نفسه كـ”ناشط ضد الفساد”، هو نفسه الذي أدانه القضاء المغربي – غيابيًا – بخمس عشرة سنة سجنًا نافذًا، بتهمة تكوين عصابة إرهابية، والتحريض على القتل ضد مسؤول قضائي سامٍ هو الوكيل العام السابق للملك، نجيم بنسامي. التناقض؟ أنه سبق أن رفع دعوى ضد نفس القاضي في كندا… بتهمة التحريض على القتل! يبدو أن الرجل يتقن تدوير التهم مثلما يتقن تدوير الأكاذيب.
هل تحوّلت حرية التعبير إذن إلى مظلة للابتزاز السياسي؟ وهل تحوّلت كندا من ملاذ للمعارضين إلى منصة خلفية للإرهاب السيبراني؟ الأسئلة تتكاثر، والإجابات تذوب تحت حرارة “المصالح العليا” و”الازدواجية القيمية”.
الأخطر من كل ما سبق، هو أن كندا، عبر صمتها أو تهاونها، تقدم – بشكل مجاني أو مقصود – غطاءً شبه رسمي لهذا التحالف الإعلامي العابر للقارات بين شخص محكوم قضائيًا، ودولة تُتهم دوليًا بدعم الإرهاب، في ملف يهدد العلاقات الدبلوماسية، ويضرب مصداقية الخطاب الغربي حول محاربة التطرف.
المفارقة لا تكمن فقط في التضارب بين ما تقوله كندا وما تفعله، بل في صمتها حين تكون الضحية دولة جنوبية، ومسؤوليها ليسوا من “العائلة الديمقراطية”. فجأة، يصبح الإرهاب الرقمي وجهة نظر، والتحريض العلني مجرد “تعبير عن الرأي”، والصفحات السوداء لـ”جيراندو” حرية إعلامية محمية!
ختامًا، إذا كان القانون لا يفرّق بين إرهابي وآخر، فإن الجغرافيا لا ينبغي أن تكون ملاذًا لمن يحوّلون الدول المستضيفة إلى قواعد خلفية لبث الحقد والفوضى. أما كندا، فعليها أن تقرر اليوم: هل هي مع حرية التعبير… أم مع حرية التحريض؟ وهل ستواصل احتضان مشروع تحريضي تديره أيادٍ إيرانية من تحت عباءة كندية؟
الكرة اليوم في ملعب أوتاوا. فإما الشجاعة… أو الشبهة.