عندما يتحول الإفلاس الدبلوماسي إلى عرض كاريكاتوري بأجرٍ مُجزٍ
في لحظةٍ يُفترض أن يتحلّى فيها المرء بالواقعية، اختار النظام الجزائري… جون بولتون. نعم، جون بولتون، الرجل الذي وصفه دونالد ترامب، دون تردّد أو مجاملة، بأنه “أحد أغبى الأشخاص في واشنطن”. وفيما تؤكد واشنطن مرةً أخرى دعمها الصريح لسيادة المغرب على صحرائه، ويستعد الكونغرس لتصنيف البوليساريو تنظيماً إرهابياً، وتزداد قائمة العواصم المؤيدة لمقترح الحكم الذاتي طولاً ورونقاً، يقرر جنرالات المرادية أن يرسلوا من جديد بولتون إلى الساحة، كأنهم يستنجدون بشبح بائد لإنقاذ مشروع خاسر.
الخطوة لا تخلو من نكهة كاريكاتورية. فمن يراهن على سياسي أمريكي متقاعد، طُرد من البيت الأبيض طرداً مهيناً، ولا يملك اليوم إلا مدوّنة في صحيفة من الصف الثاني، لا بدّ أنه يعاني من أزمة “محتوى” دبلوماسي. بولتون، الذي قضى بضعة شهور كمستشار للأمن القومي قبل أن يُركل إلى خارج الإدارة الأمريكية، عاد الآن بتدوينة باهتة في واشنطن تايمز ليعيد عزف أسطوانة “الاستفتاء”، متجاهلاً كل الوقائع، والتحولات، و… التاريخ الحديث.
ولأنه لا توجد عودة مجانية من التقاعد، فقد تكفّل سفير الجزائر في واشنطن، صبري بوقادوم، بإنجاز هذه “الضربة الدبلوماسية”. بتنسيقٍ مع شركة الضغط BGR Group، التي تتلقى 720 ألف دولار سنوياً لتسويق السراب، تم إخراج بولتون من قوقعته. الهدف؟ إقناع العالم بأن الاستفتاء لا يزال حلاً واقعياً، وأن البوليساريو مجموعة وديعة لا علاقة لها بإيران، ولا بسوريا، ولا بالميليشيات. وأن المغرب، بطبيعة الحال، هو العقبة، وهو الطامع، وهو المتآمر على استقرار المنطقة!
مسرحية “التحول الاستراتيجي”
ولأن المسرحية لا تكتمل من دون سينوغرافيا، فقد أحيا بوقادوم ذكرى اتفاق التعاون العسكري الأمريكي الجزائري المُوقع في يناير، واستعرض على مسرح DefenseScoop استعداد بلاده للقيام بـ”التحول الاستراتيجي العظيم”، وداعاً للأسلحة الروسية، ومرحباً بالبندقية الأمريكية! في ظرف أشهر قليلة فقط، انتقل النظام الجزائري من “نكاية الناتو” إلى “حبيب البنتاغون”، كل ذلك في سبيل شراء ود واشنطن… أو على الأقل كسب شفقة عابرة.
لكن الولايات المتحدة لا تُدار بالعواطف، وأسماء مثل ماركو روبيو – وزير الخارجية الحالي – لا تنسى بسهولة أن الجزائر كانت، حتى الأمس القريب، من بين أكبر زبائن الصناعات الحربية الروسية خلال غزو أوكرانيا. فما الحل؟ ببساطة ، تلميع صورة البوليساريو، وإرسال بولتون ليقوم بـ”خدمة ما بعد البيع”!
بولتون… مُنقذ الحالمين
في مقاله الأخير، لم يُخيب بولتون الظنون: دافع عن “حق الصحراويين في تقرير المصير”، اتهم المغرب بـ”عرقلة القرارات الأممية”، وزاد على ذلك باتهامه بالتهام شمال موريتانيا وغرب الجزائر ضمنياً. هل هي نوبة هلوسة جيوسياسية؟ ربما. لكنه أكد أيضاً، وللمفارقة، أن “الجزائر بصدد إعادة تشكيل تحالفاتها”، مستشهداً بالاتفاقية العسكرية التي يبدو أن بولتون نفسه لم يقرأ بنودها.
أما البوليساريو، في عيون جون بولتون، فهم “قديسو الصحراء” ، لا علاقة لهم بإيران، ولا بحزب الله، ولا بميليشيات بشار الأسد. وكل ما قيل عن تدريب مقاتليهم في سوريا مجرد “مناورة مغربية”. بل وذهب أبعد من ذلك عندما قال إن الحكومة السورية الجديدة “نفت” تلك الروابط. طبعاً، تجاهل أن هذه الحكومة نفسها سرّبت وثائق تُثبت تورط البوليساريو مع محور طهران. لكن، لمَ ندع الحقائق تُفسد علينا تدوينة مدفوعة؟
حين تصبح الهلوسة سياسة خارجية
يبدو أن بولتون يعتقد أن العالم متوقف في سنة 1991. فـ”الدرس الأخلاقي” الذي ختم به مقالته هو ضرورة العودة إلى خيار الاستفتاء، متناسياً – أو متغافلاً – أن هذا الخيار لم يعد مدرجاً حتى في أجندة الأمم المتحدة. وأن الولايات المتحدة، منذ 2022، أعلنت بشكل واضح دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربي، وافتتحت قنصليتها في الداخلة، وأن أغلب دول العالم اتخذت مواقف مماثلة، ليس حباً في المغرب، بل اقتناعاً بواقعية الحل.
الرهان على الأشباح
ما يحدث اليوم ليس دفاعاً عن مبدأ، بل تكرار لفشل دبلوماسي في ثوب استعراض إعلامي. الجزائر لا تملك خطة بديلة، ولا رؤية سياسية ناضجة، ولا شجاعة الاعتراف بالواقع. فتراها تنبش في قبور الماضي لتستخرج أسماءً مثل بولتون، وتدفع أموالاً باهظة في لوبيينغ لا يُقنع إلا نفسه.
لكن لا بأس… فمن لا يملك الحقيقة، يُراهن على الوهم. ومن لا يملك الورقة، يراهن على “الجوكر” الخاسر. أما الصحراء؟ فهي مغربية، بحكم الجغرافيا، والتاريخ، والشرعية، والواقع… وبشهادة من يهمهم الأمر.