دولتان في دولة واحدة… والرئيس رئيسان: الجزائر تفتتح فصلاً جديدًا من عبث الجغرافيا السياسية!

بوشعيب البازي

في عرض مسرحي جديد من إنتاج “مسرح العبث الدبلوماسي”، شهد قصر المرادية في الجزائر حدثًا فريدًا من نوعه، لا يمكن أن يحدث إلا في بلاد العجائب المغاربية: تقديم “سفير” ما يُعرف بـ”الجمهورية الصحراوية الديمقراطية” أوراق اعتماده إلى الرئيس الجزائري. نعم، لا تمزح عزيزي القارئ، لقد أصبح للخيال مقعد رسمي في البروتوكول الجزائري.

في مشهد عبثي يذكّر بمسرحيات صامويل بيكيت، وقف عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية الجزائرية (والقائد الأعلى لما تبقى من مؤسسات الدولة)، يستقبل “سفيرًا” لكيان لا توجد له لا أرض ولا سيادة ولا سكان بمعنى الدولة، سوى خيام متناثرة في تندوف، حيث ترعى المخابرات الجزائرية قطيع “الجمهورية” الوهمية.

الرسالة كانت واضحة: نحن في الجزائر نؤمن بتعدد الشخصيات حتى داخل الدولة الواحدة، فكما يحق للفنان أن يلعب دورين في نفس المسرحية، يحق للرئيس الجزائري أن يكون رئيسًا على دولته، ومضيفًا لرئيس آخر يعيش في حضنها. إنها نسخة محلية من “نظام فيدرالي” غير معلن، حيث العاصمة الجزائر تؤوي جمهورية أخرى، بعَلَم ونشيد و”سفارة”، ولا ينقصها سوى فريق كرة قدم يشارك في كأس الأمم الإفريقية!

إن كان الجنون درجات، فإن ما وقع يتجاوز الهذيان السياسي إلى العبث الجيو-استعراضي. كيف يعقل أن تستقبل دولةٌ “سفيرًا” لكيان يعيش تحت خيمتها، ويتغذى من ميزانيتها، ويتنفس هواءها، ويتحدث بلسانها؟! إنه نوع جديد من الاستعمار العكسي: دولة تستعمر جزءًا من نفسها باسم “حق الشعوب في تقرير ما لا تستطيع تقريره”.

بروتوكول تقديم أوراق الاعتماد عادة ما يكون لحظة اعتراف متبادل بين دولتين ذات سيادة. أما في الحالة الجزائرية، فهو مشهد يُدار بإخراج داخلي وتمثيل خارجي: الرئيس يستقبل، والرئيس يُستقبل، وفي النهاية التصفيق للسيادة المزدوجة على تراب واحد.

أي عبقرية دبلوماسية هذه؟ لقد سبق الفقه الدستوري الدولي بأشواط، وأربك قواعد فيينا للعلاقات الدبلوماسية. في الجزائر فقط، يمكن للسفارات أن توجد بلا دول، وللدول أن توجد بلا شعب، وللشعب أن يُختزل في فصيل مسلح تحت وصاية جنرالات.

لكن، مهلاً، ألسنا نحن من قيل لنا إن “الجزائر لا تتدخل في شؤون الغير”؟ طبعًا، بشرط أن يكون هذا “الغير” يعيش في تندوف، ويتقاضى راتبه من خزينة الدولة، ويقف كل صباح لتحية علم الجمهورية الثانية في الدولة الأولى.

إنه ابتكار جزائري خالص: دولتان في دولة واحدة، ورئيسان في قصر واحد، وعلم فوق علم، وسيادة تُلبسها المخابرات الزيّ الرسمي وتضعها على قائمة الرواتب.

في النهاية، قد يبدو المشهد كاريكاتوريًا، لكنه للأسف حقيقي. وحدها الجزائر قادرة على اختراع “جمهورية ضيفة” وتمنحها سفيرًا يعرض أوراقه على صاحب البيت، دون أن يطرق الباب.

مرحبًا بكم في الجزائر الجديدة: حيث المنطق يُعلّق في الجمارك، والسيادة قابلة للتجزئة، والدبلوماسية تُدار كما يُدار مسرح العرائس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: