يبدو أن “الابتكار المغربي” في تبديد المال العام لا حدود له، وآخر صيحاته ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الدراسات الوهمية”، حيث تُضخ الملايير لمكاتب دراسات، بعضها لا يفرّق بين دفتر التحملات وورقة التحليل النفسي، لتنتهي أغلب تلك المشاريع بتقارير أنيقة ومجلدة تُوضع بعناية على رفوف المجالس المنتخبة… ثم تُنسى إلى حين قدوم لجنة تفتيش أو تحقيق قضائي.
المكتب الأشهر في هذا المجال – ولن نذكر اسمه حفاظًا على ما تبقى من مشاعر الدفاتر المحاسبية – يوجد صاحبه حالياً في ضيافة الدولة، بعد أن أبدع في تحويل الاستشارة التقنية إلى فن من فنون الخداع، بل وارتبط اسمه بملف رئيس سابق حُكم بثماني سنوات نافذة، وهو ما يعطي لمفهوم “الدراسة العميقة” بُعداً قضائياً غير مسبوق.
الآن، يبدو أن هذه العدوى ماضية في الانتشار كالنار في أرشيف الجماعات، لتصل إلى مدن مثل أزيلال والخميسات والفقيه بن صالح. وهنا تدخل وزارة الداخلية على الخط، حيث أمر الوزير عبد الوافي لفتيت المفتشية العامة للإدارة الترابية، بقيادة الوالي محمد فوزي، بإخراج الملفات من الأرشيف (وقد تحتاج فرقاً متخصصة في التنقيب، على غرار بعثات الآثار).
المطلوب ليس فقط إعادة فتح هذه الملفات، بل إعادة تعريف كلمة “دراسة”، لأن أغلب ما تم إنجازه لم يكن يرقى حتى إلى مستوى ورقة نوايا. فنحن أمام تقارير خالية من أي أثر ميداني، تشبه وصفات طبخ أعدها طباخ لا يعرف طعم الملح، لكن قبض أجره مع ذلك، وبالعملة الصعبة.
الغريب أن هذه “الدراسات” لم تنجز في الخفاء، بل أمام مرأى ومسمع المجالس المنتخبة، التي يبدو أن بعضها اعتبر أن الدراسة في حد ذاتها إنجاز، حتى إن لم تنتهِ إلى مشروع، ولا حتى إلى خريطة طريق لزرع شجرة يتيمة في حي مهمّش.
وقد تكون المفارقة الأكبر أن هذه الملايير تُصرف في الوقت الذي تطالب فيه الجماعات نفسها بدعم حكومي إضافي لإنجاز البنية التحتية، وكأن هناك انفصاماً في الشخصية التدبيرية: نُنجز دراسات لا نطبقها، ثم نصرخ في وجه الدولة: “أين الميزانية؟”
إنها كوميديا سوداء، تدور أحداثها بين مكاتب مزخرفة وأرشيفات موصدة، أبطالها رؤساء جماعات يرون في المال العام مجرد رقم قابل للصرف، لا للمحاسبة. أما المواطن، فهو آخر من يعلم، وأول من يدفع.
لكن من يدري؟ ربما بعد النبش الجديد في هذه الملفات، نجد دراسة حقيقية واحدة، منجزة بكفاءة، وقد تسقط من بين الأوراق بالصدفة… وعندها سنحتفل بها كما يُحتفل بظهور طائر نادر في محمية منسية.