في الوقت الذي يترقب فيه المجتمع الدولي تقريراً أممياً حاسماً بشأن نزاع الصحراء المغربية، أطلق المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، جولة مشاورات جديدة من العاصمة البلجيكية بروكسيل، أثارت تساؤلات عن أهدافها، سياقها، ومآلاتها. فهل تُعد هذه التحركات بديلاً دبلوماسياً يملأ فراغ المسار السياسي؟ أم مجرد جولة في دائرة مفرغة تعيد الأمم المتحدة إلى إنتاج العجلة؟
محطة “مفاجئة”… ورسائل مشفّرة
التحرك نحو بروكسيل لم يكن متوقعاً ضمن أجندة المبعوث الأممي. لكن رمزية المكان – باعتباره مقراً لمؤسسات الاتحاد الأوروبي – توحي بتوجه يروم تدويل المشاورات حول ملف الصحراء خارج الدوائر المعتادة في نيويورك، خصوصاً مع مشاركة جبهة البوليساريو وموريتانيا في اللقاءات الجارية هناك.
وحسب مصادر دبلوماسية مطلعة، فإن هذه الخطوة تتزامن مع فعاليات الاجتماع الوزاري الإفريقي–الأوروبي، ما يطرح احتمال تداخل الأجندات السياسية بملف النزاع، في وقت تحرص فيه الرباط على إبقاء الملف ضمن حاضنته الأممية الحصرية، وهو موقف تكرر في بياناتها الرسمية أكثر من مرة.
المغرب: تحفظ مشروع، وانخراط محسوب
مصادر مقربة من دوائر صنع القرار في الرباط أكدت، في تصريح صحفي، أن المغرب ليس ضد اللقاءات ولا ضد المساعي الأممية، لكنه يتحفّظ عن المسارات الجانبية التي تحاول أطراف إقليمية جر الملف إليها، خاصة إذا كانت تحركات “تحت الطاولة” تُستخدم لإعادة تدوير مواقف قديمة تتعارض مع قرارات مجلس الأمن.
الرباط، التي تراهن على الاعتراف الدولي المتزايد بمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي للنزاع، تعتبر أن أي مفاوضات لا تستند إلى مرجعيات مجلس الأمن، وتحديداً القرار 2654، تمثل خروجاً عن الإطار الشرعي وتشويشاً على الجهود الرامية إلى حل دائم.
الجزائر: حضور مشروط وموقع رمادي
رغم أن الجزائر تُعد طرفاً محورياً في النزاع، فإنها تواصل التمترس خلف صفة “الملاحظ”، وترفض الجلوس إلى طاولة مفاوضات مباشرة، إلا بشرط مسبق: لقاء منفصل مع المغرب.
هذا الموقف، الذي يراه مراقبون “تكتيكاً دبلوماسياً”، لا ينسجم مع الدعوات الأممية المتكررة إلى إشراك جميع الأطراف المعنية بفعالية، بل يُقرأ أحياناً كتمويه استراتيجي يهدف إلى تعطيل المسار وإبقاء الوضع كما هو عليه.
المحللون منقسمون
في تصريح صحفي، قال الدكتور آبا الشيخ أبا علي، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، إن “بروكسيل ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل رسالة دبلوماسية موجّهة إلى أوروبا، ومؤشر على أن دي ميستورا يسعى إلى تدويل الزخم المؤيد لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية”.
وأضاف أن “دي ميستورا، المعروف بدقته السياسية، يختبر مواقف الأطراف ضمن أجندة محسوبة لتقرير أكتوبر، ويراهن على اختراق دبلوماسي يُخرج الملف من حالة الجمود”.
في المقابل، عبّر الباحث سعيد بوشاكوك عن تخوفه من أن “تتحول هذه اللقاءات إلى واجهات سياسية لتصفية حسابات جيوسياسية”، مشدداً على أن “الخروج عن المسار الرسمي يضعف شرعية الوساطة الأممية ويضر بثقة المغرب في الآليات الأممية”.
زخم أمريكي وتأييد أوروبي
التحرك الأممي يأتي في سياق تأييد دولي غير مسبوق للمبادرة المغربية. فقد جددت واشنطن، بصفتها “حاملة القلم” داخل مجلس الأمن، دعمها الصريح لمقترح الحكم الذاتي. كما عبّرت عواصم أوروبية مؤثرة مثل باريس، برلين ومدريد عن مواقف مماثلة.
وبحسب معهد السياسة الخارجية الأوروبي في بروكسيل، فإن “هناك تحوّلاً داخل الاتحاد الأوروبي نحو دعم صيغ الحل الواقعي، ومقترح الحكم الذاتي يبرز كخيار توافقي ضمن الأجندة الجيوسياسية الجديدة”.
ماذا بعد بروكسيل؟
وفق مصادر أممية، فإن دي ميستورا قد يقوم بزيارة مرتقبة إلى الرباط، في سياق استكمال سلسلة لقاءاته قبيل صياغة التقرير الأممي المنتظر في أكتوبر المقبل. وتهدف هذه الزيارة إلى جمع التصورات النهائية ومواقف الأطراف، في محاولة لإنضاج أرضية سياسية ملائمة لاستئناف المفاوضات الرسمية.
لكن دون ضغط أممي واضح، ومشاركة فعالة من الجزائر، فإن الطريق نحو الحل سيظل محفوفاً بعقبات سياسية ودبلوماسية معقدة.
اللقاءات التي يقودها دي ميستورا في بروكسيل قد تحمل بصيص أمل في مسار تفاوضي محتمل، لكنها تطرح أيضاً سؤالاً مشروعاً ، هل يعيد المبعوث الأممي طرح ملف الصحراء على سكة الحل؟ أم تراه فقط يحرك عجلة دبلوماسية تراوح مكانها منذ سنوات؟
الجواب، كما يقول المراقبون، لن يتضح إلا حين تُفتح أبواب التفاوض الحقيقي… في نيويورك، لا في بروكسيل.