في خطوة مفاجئة – أو ربما ليست مفاجئة لمن يعرف كواليس البيت الكبير في المرادية – أعلن “جمهورية تندوف الكبرى” المعروفة اختصارًا بجبهة البوليساريو، إنهاء مهام ممثلها في الجزائر، عبد القادر طالب عمر. ورغم صياغة الخبر بلغة خشبية ناعمة لا تختلف كثيرًا عن لغة التعازي الرسمية، فإن ما خفي كان أعظم.
فالوداع كان رسميًا ومهذبًا: زيارة وداع للرئيس تبون، حفلة شاي في الخارجية الجزائرية، مصافحة مع بعض السفراء، وربما دمعة خفيفة في زاوية العين. لكن الحقيقة؟ ما جرى ليس إلا بداية الانفصال، بصيغة “دعنا نأخذ استراحة مؤقتة، لكن كل منا يبحث عن مستقبله بعيدًا عن الآخر”.
البيان الرسمي للبوليساريو قال إن طالب عمر نُقل إلى “مهام جديدة”، دون أن يشرح لنا ما هي هذه المهام، ولا لماذا تم “نقله” فجأة، ولا ما إذا كان النقل اختياريًا أو اضطراريًا. المهم، تم وضعه في ما يشبه التجميد السياسي، أو بلغة أكثر دقة: “التقاعد الإجباري تحت شعار التجديد الهيكلي”.
في المقابل، تزداد الأصوات الجزائرية، حتى من داخل النظام نفسه، التي ترى أن دعم البوليساريو تحول إلى عبء سياسي وأمني واقتصادي، ولم يعد يحقق أي مكاسب لا على مستوى الصحراء ولا في العلاقات الخارجية. الجزائر اليوم تواجه تضخمًا داخليًا، اضطرابات في الساحل، وتغيرًا في مواقف عدد من القوى الدولية التي باتت ترى في مبادرة الحكم الذاتي المغربية الحل الواقعي الوحيد. أما البوليساريو؟ فيتجول في المحافل الدولية وكأنه نجم غائب عن لائحة الترشح.
البعض وصف قرار إقالة السفير – أو بالأحرى طرده المقنّع – بأنه بداية لـ”تبريد دبلوماسي” بين الجزائر والبوليساريو، وهو ما أكده الباحث حسن الإدريسي الذي قال إن الأمر ليس تفصيلاً عابراً، بل مؤشر على مراجعة شاملة لعلاقة كانت حتى الأمس توصف بـ”التحالف الاستراتيجي”.
حتى الخطاب السياسي تغير: لا زيارات رفيعة، لا خطب نارية عن “تقرير المصير”، ولا بيانات حماسية. كأن الجزائر بدأت تقول، بلغة غير مباشرة: “لقد دعمناكم بما يكفي، والآن حان وقت تقليص الخسائر”.
المصادر الصحفية تتحدث عن نية الجزائر سحب امتيازات كثيرة من قيادة الجبهة، بدءًا من الإقامة والمخصصات، وصولًا إلى الحد من تحركاتهم ونشاطاتهم. والسبب؟ تدخلات البوليساريو المتزايدة في الشأن الجزائري، وتورط بعض قياداته في صراعات داخل المخيمات وحتى في ملفات أمنية داخلية… وهو ما تعتبره الجزائر “تجاوزًا للحدود بين الضيف والمضيف”.
لكن هل هو القطيعة النهائية؟ ليس بعد. النظام الجزائري لا يحب الانقلابات المفاجئة، بل يفضل سياسة “التبريد البطيء” و”التحنيط السياسي”. لذلك من المرجح أن نشهد فترات صمت طويلة، تقارير غامضة، ثم اختفاء تدريجي للجبهة من المشهد دون ضجة.
أما البوليساريو، فبات كمن يعيش في غرفة الإنعاش. يرفض الاعتراف بأنه ميت سياسيًا، ويحاول الترويج لنفسه على أنه “فاعل ميداني”، بينما الواقع يكشف أنه مجرد أداة مأجورة فقدت صلاحيتها، وأصبحت عبئًا حتى على من صنعها.
في النهاية، سواء أكان الأمر طلاقًا وديًا أم طردًا ناعمًا، فالأكيد أن الجزائر تعبت من الإنفاق على شبح سياسي، وأن البوليساريو يعيش آخر فصوله، بعد خمسين سنة من الوهم، الشعارات، والتوظيف الدعائي… النهاية تقترب، وليس من عادة التاريخ أن يرحم الكيانات الوهمية.